"الصورة هي محاولة يائسة للاحتفاظ بالزمن".. هكذا قالت أحلام مستغانمي.. لكن الصورة هنا كانت محاولة يائسة للاحتفاظ بالكرسي والزمن معا، لكنها لم تحفظ لهم حياتهم حتى. كأنه كان علينا انتظار هذا العام وهذه الصورة زمنا طويلا.. صورة للدهر.. رفقة الأمس في الحكم، رفقة اليوم في الغياب.. رفقة الاحتكار وتوزيع الفتات، واليوم رفقة البحث عن الظهور بأي شكل، لا أحد قوي على إرادة الملايين التي خرجت منادية بفتح صفحة بلا صور هؤلاء.. إنها آخر صورة محترمة في هذا العصر.. بالطبع أقصد الصورة، وليس محتوى الصورة. بعد أن كانت صورة الزعيم الرمز أو صورة الزعيم القهر، تغطي كل شيئ في حياتنا، صارت الصور اليوم تبحث عن مأوى في أقرب إرشيف إن بقي لها مكان، وإلا فالأمكنة الأقذر متوفرة بكثافة. تفتتت صورة الزعيم عاما بعد آخر، وعقد بعد عقد، حتى رسمت العنكبوت عليها صورة أمل قادم لحياة أخرى بدون صور هذا القدر التعيس على الأوطان. لنحتفي اليوم بصورة هذا الرباعي الذي احتواهم مهرج داس الكرامة والحق، ولبس رداء الشيطنة على شكل لباس شعبي كرهه الليبيون كما كرهوا عدوهم القديم الذي شنق عمر المختار.. لست أدري أيهم أقسى في قلوب الليبيين، القذافي أم الاحتلال الإيطالي. أما نحن فقد شبعنا من صور "القًصة القديمة" والشعر الطويل، ثم الأقصر فالأقصر لفخامته، ثم الأصلع، ثم الأسود ثم الأبيض، وبالغترة، والقبعة، والجنبية والمعوز، والفوطة، وكل ألوان الطيف من ربطات العنق الأنيقة، والبدلات الإيطالية، وكل أنواع الأقمشة وأخيرا بالكفوف. تعب الوطن وجدرانه صورا.. اليوم تبقت صورة الرباعي الراحل، بن علي، ومبارك، والقذافي، وأخيرا وليس آخرا "علي". كم كنا بحاجة لصورة تحشد كل هذا الكم الهائل من المبيدات الوطنية التي دمرت الأوطان وزرعت الفتن والجهل والفقر، باسم الديمقراطية والحرية والتغيير أيضا.. لم يسلموا من التغيير الذي انتظروه هم، فجاءهم بأفواه جيل بعيدا عن الصناديق "الكاذبة الخاطئة" كما وصفها فوزي بشرى في قناة الجزيرة. تلك الصناديق التي حملت لنا صور القهر، والموت، والجوع، وكل أنواع الدمار الشامل في الحياة المعيشية. لسنا عبدة صور، لكنهم أرادوا منا أن نكون كذلك، وهم يعلمون كم قلع العالم من تماثيل بدءا بهتلر ومرورا ب لينين وستالين، وانتهاءً بصدام حسين. عبدوا الصورة والتمثال، ورأينا كيف أن الناقلات السورية حاولت أن تخبيء تمثال الأسد الأب في أقرب مخزن خشية عليه من غضب الناس.. لا مكان لصنم الآن.. ولا مخبأ لصورة. الصورة اليوم لا حماية لقداستها إن لم يكن الشعب هو البرواز، وليس الدبابة والمدفع. الصورة هي نحن، البسطاء، الباحثين خلف اللقمة كملاذ أول وأخير للحياة. الصورة هي أولئك الذين وقفوا في وجه رشاشات وقنابل ومدافع ودبابات صورة الزعيم. الصورة التي تحميها بندقية هي صورة تافهة، ولا تستحق النظر إليها. كيف كان الدم يثور في عروق ذاك الشاب التعزي حين صعد على كوبري قرب جولة القصر وتعلق وحاول قتل نفسه لكي يحرق صورة الزعيم.. أي روح غاضبة ملأت قلب هذا الشاب بالقهر والرغبة في كسر الصنم القاتل، وكانت أول الصور التي أحرقت في مكانها وفي شارع عام. ذهبوا بعيدا، وبقيت صورتهم هذه للتاريخ، ليقول لهم إن الصورة مضى عليها عام فقط، وكان آخر اجتماع لهم في قاعة واحدة. هي صورة الحياة بكامل روعتها، صورة التغيير الذي كتبته أقدار الله في هذا الوطن العربي الواسع.. من الغرب كانت الصورة قادمة، واستقرت هنا أخيرا في شوارع صنعاء بلا وجل، بلا خوف من الدمار، بلا توقف برغم كل محاولات قتل شعب احترف الغضب الآن. فلنقهر الصور الآن، ولننسى رفع صور الأشخاص إلى الأبد.. الوطن أولا، والشعب أبقى.