ليست الثورة تحريك دبابة أو احتلال إذاعة أو إعلان بيان.. كل هذه مجرد لحظات عاطفية أو مجرد روائح آنية لحسّ آني...أما الثورة التأريخية فهي إنقطاع الثوار عن أنانيتهم ودخولهم أرضاً جديدة بالثورة ومع الثورة. ويضيف البردوني: هذه هي الثورة التي تنقشها الشمس على صفحات التحول الدائم. مستطرداً: فأول مهامات الثائر أن يتغير حتى يتبدى حقيقة جديدة تنتقل بالتحقيق إلى ملايين الحقائق, صحيح أن هذا التغيير ليس سهلاً ولكنه غير مستحيل.أ.ه بتلك العبارات الرائعة أوجز البردوني المشهد الثوري الماثل اليوم, والذي أخذ يتشكل على النحو الذي كان يرنوا إليه, ليُسجل حضوره بيننا بمثل هذا الحس الثوري المرهف قبل نحو 28 عاماً من الآن, حين فرغ من كتابه "اليمن الجمهوري" في العام 1983م, ليكون بذلك الشاهد الحاضر (الغائب) على ثورة شعبية لطالما تمناها على النحو الذي تخيله. ربما لو قُدّر له أن يعيش إلى يومنا هذا فلن يزيد على ماقال, ولعله سيكون حينها أكثر سعادة وهو يرى ببصيرته الثاقبة جيل الثورة الشعبية, ثورة 11 فبراير 2011 يدخل أرضاً جديدة بالثورة ومع الثورة كما تنبئ من سابق, ليعيدوا كتابة التاريخ اليمني ويستكملوا مسيرته كما كان يتمنى ويصبوا إليه في كتابه آنف الذكر. نحن الآن على أعتاب يمن جمهوري جديد حاول صالح وعائلته إنتزاعنا منه, وجرنا بعيداً عنه إلى عهود التوريث والحق الالهي المطلق, الذي وضع اليمن في كهوف ما قبل التاريخ مايزيد عن ألف عام. اليوم يدخل الثوار ومعهم غالبية اليمنيين- إلاّ من أبىّ- أرضاً جديدة وعهداً جديداً عبر بوابة الانتخابات الرئاسية, ليمحون آثار تلك العهود المظلمة التي حاول رجل جاهل, هلع للسلطة وبريقها, أن يعيدنا إليها بقوة السلاح تارة وبالمكر والخديعة تارة أخرى, ظناً منه أن جذوة الثورة قد خبت في نفوس اليمانيين, وأن سنوات حكمه الطويلة دجنتّهم وروضتهم, وجعلتهم يرتضون به حاكماً مطلقاً, وأن يكونوا مجرد متاعاً يورث ل " البزورة", فخابت آماله. ليس أقسى على "صالح" من هذا اليوم, أن يأتي رئيس جديد لليمن فيزيحه من "كرسي النار" ويحل محله, فيما يعود هو- إن عاد- إلى بيته رجلاً من عامة الناس بعدما ظل مستأثراً بالسلطة 33 عاماً, وغاية ما يمكن أن يناله بعد كل هذه السنين العجاف أن يقال "الرئيس السابق", هذا في أحسن الأحوال بالطبع, وإلاّ فإن الكثيرين يفضلون نعته بالرئيس المخلوع أو المعزول أو المنتهية ولايته, هذا إذا لم ينته به المطاف في السجن المركزي أو في معتقل جوانتنامو. لقد فات عليه أن اليمنيين سئموا طول مكثه وخداعه, وملوا رقصاته على رؤوس الثعابين, التي غدت اليوم أزمات متفجرة في شمال اليمن وجنوبه, تحاول جاهدة وأد حلمنا ب "يمن جديد ومستقبل أفضل", وهو شعاره الذي استغفل به الكثيرين في انتخابات 2006, لكنه أخفق في تمثله واستلهام معانيه, ليعود بعدها لممارسة هواياته المفضلة في إشعال الحروب واثارة الفتن, والدس والوقيعة بين اليمنيين. إن أشد وأقسى عقاب ناله صالح في حياته هو خروجه من السلطة راغماً, صحيح أنه تمكن من تخفيف وطأة الأمر عليه من خلال إصراره على إجراء انتخابات رئاسية هي تحصيل حاصل, عوضاً عن تقديم استقالته لمجلس النواب طبقاً للمبادرة الخليجية في نصها الأول, ليبدو خروجه مشرفاً, وكأنه تم بمعزل عن ضغوط الثورة الشعبية, إلاّ أن خروجه في نهاية المطاف كان مذلاً مهما أظهر خلافه, فقد خرج صاغراً مكرهاً, في حين كان يأبى هو الخروج وترك السلطة, معتبراً خروجها من يده بمثابة خروج روحه من جسده, بدليل أنه كان يُعد العدة في البرلمان لقلع عداد الرئاسة من جذوره, عبر تعديلات دستورية مثيرة للجدل, لكن الأقدار كانت له بالمرصاد فقلعته وأبقت العداد. رئيس لأجل اليمن في السابق, وفي انتخابات 2006 تحديداً, لم تُتح لنا الفرصة على النحو المؤمل لإحداث التغيير المنشود, كون العملية الانتخابية كانت محكومة إلى حد كبير بشروط الطرف الأقوى الذي مثله صالح آنذاك. ولم يكن الوعي الشعبي في مرحلة النضوج كما هو اليوم, فيما كانت المصالح الدولية والإقليمية ماتزال متبلورة حول النظام السياسي لصالح, إلاّ أن تلك الانتخابات أتاحت من جانب آخر للفاعلين الدوليين والإقليميين فرصة الاقتراب أكثر من المشروع السياسي للمعارضة, والإطلاع عليه عن كثب ووضعه على محك الاختبار الشعبي, وقد أثبت المشروع فعاليته وقبوله في أوساط الجماهير المحتشدة, التي أثارت الهلع- ربما للمرة الأولى- في روع صالح, وجعلته يفقد توازنه ويحذر من قدوم من أسماهم بالتتار!!الذين جاؤا لنهب البنك المركزي ومؤسسات الدولة المختلفة على حد وصفه, فيما كان هو قد فرغ للتو من نهبها, وإفراغها في جيبه. بعدها, ومن لحظة أن عاد صالح مجدداً إلى القصر, منتشياً بالنصر الذي كرّسه حاكماً أوحد لامنازع له, سار صالح في الاتجاه المغاير لمصالح الشعب, متنكراً لوعوده التي قطعها له, مطمئناً إلى مساندة المجتمع الدولي له, والذي تمثل في إنعقاد مؤتمر المانحين بلندن آواخر العام 2006, وحصوله على تعهدات دولية بمبلغ تجاوز 5,7 مليار دولار. بيد أن إخفاقاته المتوالية وفشل مشروعه السياسي الذي انصبّ لتكريس التوريث, أديا في نهاية المطاف إلى تزايد سخط الشارع, وتفجر الثورة الشعبية في وجهه, وهو ما أدى تالياً إلى حدوث تحول متعاظم في سياسة الأطراف الخارجية إزاءه. اليوم أتاحت لنا الثورة الشعبية فرصة الانعتاق من حكم "صالح" وعائلته, عبر عملية انتخابية محكومة إلى حد كبير بشروط الثورة, وتحظى بمسانده لا محدودة من المجتمع الدولي, الذي يراقب عن كثب ما سيفعله اليمنيون المؤيدون والمعارضون للانتخابات. والزعم بأن الانتخابات هي إلتفاف على الثورة وحرفها بعيداً عن أهدافها, هو أمر مجاف للحقيقة ومناقض لأهداف الثورة ذاتها التي خرجت تطالب بإسقاط النظام العائلي ورحيل صالح, والانتخابات تحقق ذلك الهدف, وتزيح صالح من طريق الشعب بأقل كلفة, وهي الخطوة الأكثر أهمية في الوقت الراهن, والتي يسعى بقايا العائلة بكل ما أوتوا من قوة لإحباطها عبر أدواتهم وتحالفاتهم المشبوهة التي تحركها المصالح المشتركة والعملات الصعبة. هذا التحالف الشيطاني غير المعلن بين بقايا النظام المتهاوي والجماعات المتضررة في الداخل, المتساوقة مع الأطماع التوسعية ذات البعد الطائفي لبعض قوى الخارج, هو من يسعى بالفعل إلى سرقة الثورة وإفراغها في جعبته, من خلال محاولته إفشال الانتخابات الرئاسية, وتسويقها على أنها مؤامرة خارجية لإجهاض الثورة! والواقع أن من يعمل على إجهاض الثورة هم هؤلاء الذين يرفضون نقل السلطة, برفضهم الانتخابات التي ستجيء برئيس جديد يُنهي الحكم الوراثي لصالح وعائلته, وهذا أحد أهم أهداف الثورة الشبابية, لكن البعض يقف حائلاً دونه, في الوقت الذي يتقمص أدواراً ثورية!! إن انتخاب المشير عبدربه منصور رئيساً جديداً لليمن يعني قطع الطريق أمام محاولات سرقة الثورة من قبل أولئك الذين يريدونها أن تظل تدور في حلقة مفرغة دون أن تتقدم خطوة للأمام. فالانتخابات ستفضي إلى إخراج البلد من محنته, وتحول دون إنزلاقه نحو العنف والفوضى, اللذان يدفعان صوب الإنهيار. وهي تفتح الباب أمام مشاركة حقيقية في صوغ مستقبل جديد لليمن, لا يرهن البلد للحكم الاستبدادي الفردي أو العائلي أو القبلي. إنها المرة الأولى في تاريخ اليمن المعاصر التي يتمكن فيها الشعب من فرض إرادته وخياراته, وكون تلك الخيارات تماهت وتقاطعت في لحظة ما مع رغبة ومصالح الأطراف الدولية والإقليمية فهو لا يضيرها ولا ينتقص منها في شيء, فاليمن لا يمكنه العيش بمعزل عن التأثيرات الخارجية, إلاّ أن تلك التأثيرات ينبغي توجيهها قدر المستطاع لخدمة المصالح الوطنية, وهذا ما تفعله الثورة بالضبط حينما تقرر عبر مختلف مكوناتها السياسية والاجتماعية والشبابية التوجه إلى صندوق الاقتراع, والعبور صوب المستقبل, وإنهاء حقبة تاريخية وسياسية مؤلمة, أوصلت الناس إلى ما وصلوا إليه, وساقتهم سوقاً للخروج إلى الشوارع مطالبين بالخلاص. وهاهو ذا الخلاص يلوح يوم 21 فبراير, فلا ينبغي تفويته لأي سبب كان, مهما كانت الذرائع, ومهما بلغت التحديات, إنها مسألة نكون أو لانكون, فإذا لم تكن الثورة بمشروعها الوطني الكبير, فستكون المشاريع الصغيرة التي ستتناوش البلد وتمزقه, وتبيعه قطعاً وأوصالاً لكل ناقم ومتآمر.