كان الوضع محتدما، عندما تحولت الأمور إلى معركة لم تكن بالحسبان، وبالتالي لا بد من التعامل معها. لقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينةالمنورة لملاقاة قافلة قريش ؛ قريش التي مكرت ( ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)، قريش التي صادرت أموال المهاجرين، و دورهم، و منازلهم.
لكن أمر المعركة متعلق أيضا بالأنصار؛ أهل المدينة، الذين آووا و نصروا. و هاهم جميعا أمام معركة لم تكن بالحسبان عند خروجهم من المدينة ، و لكنها معركة فرضتها قريش التي استنفرت أهل مكة و حلفائهم بجيش لَجِبٍ بغرض استئصال المسلمين.
حين تُفرض معركة ما غايتها القضاء التام على طرف آخر، لا يجد المستهدَف أمامه أي خيار؛ إلا المواجهة، أو الاستسلام.
نعم.. لقد أعطى الأنصار عهدا بأن يحموا الرسول و دعوته، إذا ما هاجر إليهم ، و ها هو قد هاجر .. لكن هل العهد الذى أعطوه محصورا بحدودِ ما لو تعرض لاستهداف في المدينة، أم أنه عهد مفتوح؟!
حين يكون التخلي، أو التراخي عن الهدف الأعلى و الأسمى، تفر أطراف إلى التأويلات بحثا عن طريق للهروب ؛ بعد أن تُمْعِن التأمل في مقدار الربح المتوقع ، أو الخسارة التي قد تكون ، و بالتالي تبدأ المواقف تفترق، و يتجه تسابق الصغار نحو الغايات الخاصة، و المنافع الذاتية، و تكون الطامة، عندما يغفل، أو يتقاصر طموح هذا الطرف و ذاك عن الهدف الأعلى، و الغاية الأسمى، تحت ضغط حِسْبة الربح و الخسارة، وفق ما تمليه المصلحة الخاصة و الأنانية الجشعة.
كان أمام الأنصار ؛ لو كانوا من هذا النوع الأناني أعذارا عدة ليبرروا معارضتهم لخوض المعركة ، و مبررات كثيرة يمكن التحجج بها ، و الغاية الحقيقية التي تكمن خلف كل المبررات و الحجج التي سيسوقونها ؛ ألا يشاركوا في خوض المعركة، التي يرونها من خلال تقييمهم المادي، أنها غير متكافئة، و أن خسارة الأنصار باعتبار أنهم يمثلون أغلبية الحضور ستكون من نصيبهم، و هنا.. سيقوم الإعلام بتبني مبررات امتناعهم عن خوض المعركة، و تزيين موقفهم الحكيم، لو أنهم رفضوا.
لكن موقف الإيمان، و الهدف الرسالي كان أكبر من كل تلك المبررات، و التوهمات، التي تمليها الأنانية، و السقوط في مستنقع التعاطي مع الربح و الخسارة، و تضخيم الأغراض ، و المنافع الخاصة، أمام حضور عدو يريد أن يلتهم الأخضر و اليابس ، و قبل ذلك القضاء التام على المشروع الرسالي، و هو الأمر الذي يفرض على كل ذي نخوة، و مروءة، و كل قائد محنك ، و كل مؤمن بقضيته، أن يُنَحِّي جانبا، كل الأطماع، و التوهّمات، و المصالح الأنانية جانبا ، ناهيك عما يمليه الإيمان، و الدفاع عن الكرامة، و الهوية، و العقيدة، و الوطن.
هنا تَبَدّى واضحا جواب القوم عن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، حين دعا : أشيروا علَيَّ أيها الناس!
غابت من خطابهم الأثَرة، و اضْمَحَلّت الأنانية، و حضر المجموع، و اختفت الفردية، و برزت الروح القيادية، و شطبت المصالح الشخصية.. فكان النصر و الفوز و الظفر.
لم يتأخر الصديق، أو عمر، أو المقداد.. عن أن يكون مضمون مشورتهم ، مواجهة المعتدين، و مقاومة المبطلين، و لو لم يجدوا إلا الذر لمواجهة المعتدين.
غير أن الرسول عليه السلام، كرر النداء: أشيروا علَيَّ أيها الناس! و وصلت الرسالة للأنصار ، الذين هم الأكثر حضورا تلك اللحظة إزاء معركة وشيكة مع قريش، و هم الجهة التي يمكن أن تقدم مبررات، و أعذارا لعدم النزال، و المواجهة.. و هنا برز كالشمس موقف الأنصار عبر زعيمهم الفذ، و الذي كان يمكن أن تبرز عنده الأنانية، فيشير بعدم المواجهة ؛ بغرض أن يعطي رسالة أنانية مفادها: لن تفعلوا شيئا بدوني، أو بدوننا.
و كان يمكن للخزرج أن يتحججوا بضرورة أن يعرفوا موقف زعيمهم الذي لم يكن حاضرا في الغزو معهم، و أنهم لن يقطعوا أمرا دونه.
كلا .. لم يكن هذا موقف الأنصار، و لا موقف سعد بن معاذ، الذي دوّى برأيه بكل صدق، و وضوح : لكأنك تريدنا يا رسول الله .. فامض لما أراك الله.. و لن يتخلف منا رجل واحد..!!
يبقى الكبار أمام المحن و الشدائد كبارا ، لا يبالون في اقتحام الأهوال، و مقارعة الخطوب ! بينما يمضي الصغار نحو غاياتهم الدنيا ، و أغراضهم الساذجة، و بنفوس ممتلئة بالعجب و الجبن و الأنانية.
الشدائد تجمع المختلفين، و توحد الصفوف، و لا يمكن لقائد، أو قادة يحملون هدفا أعلى، و تُفرض عليهم معركة فاصلة، أن تتقهقر مواقفهم،و تتمزق وحدتهم ليقدموا أنفسهم غنيمة سهلة لعدوهم ، و لا من الرجولة بأدنى صورها أن يرضوا أن يسجلوا لأنفسهم تاريخا موسوما بالجبن و الذل و الهزيمة، بخذلان وطنهم، و شعبهم، و مشروعهم الذي هو مشروع أمة؛فيصير كل هذا هدية مجانية، لعدو متربص، يريد أن يكسرهم، و يستأصلهم.
و كان نتيجة الشورى وحدة الصف، و بروز عظمة الرجال القادة، و ظهور الإيمان، و كسب المعركة، في بدر الكبرى، بدر الفرقان.
تلك هي طريق القادة العظماء، الذين يرتقون إلى عظمة الأهداف، و سمو الغاية، و تميز المواقف ممن يستلهمون بدر الكبرى لصناعة بدر الجديدة.