تحولت فكرة "إسرائيل الكبرى" من نص ديني ورد في أحد أسفار العهد القديم إلى مشروع توسعي منظم يتقدم بخطوات محسوبة، يبتلع الجغرافيا قطعة تلو الأخرى، ويستند إلى المصادر التوراتية كمرجعية أيديولوجية، ويستمد زخمه كذلك من هشاشة الإقليم العربي والإسلامي، ومن صمت القوى المؤثرة، أو قهرها بالمطاردة والسجون، ما بدأ بوصفه تصورا في الأدبيات الدينية تحول إلى وقائع ملموسة، وما جرى تداوله في الخفاء صار ينفذ في العلن، فيما يتزايد السؤال عن قدرة القوى العربية على منع المرويات الدينية العبرية من أن تتحول إلى حدود سياسية ترسمها الدبابات والمستوطنات. ويستند التصور الجغرافي لهذه الفكرة إلى ما ورد في النص التوراتي الذي يحدد "أرض الميعاد" بأنها تمتد "من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات"، وتشمل فلسطين التاريخية كاملة وأجزاء من الأردن وسوريا ولبنان وسيناء. وقد جعل التيار الصهيوني الديني والقومي المتطرف من هذا النص مرجعية أيديولوجية لتبرير السيطرة على الأراضي المحتلة ورفض أي تسوية سياسية تقوم على الانسحاب أو التخلي عنها، بينما اختلفت المدارس الدينية اليهودية في تفسير الحدود الدقيقة لهذا الامتداد. ولقد نفذت الحكومات الإسرائيلية منذ حرب 1967 جوهر هذا المفهوم على الأرض عبر ضم القدس الشرقية، وإعلان السيادة على الجولان، وبناء شبكة استيطانية واسعة تربط الضفة الغربية بالداخل الإسرائيلي، وتعزيز السيطرة الأمنية على غور الأردن. وقد رسخت هذه الإجراءات وقائع يصعب تغييرها حتى مع تغير الحكومات أو تبدل موازين القوى الدولية. كما ساعدت التحولات الإقليمية في العقدين الأخيرين على تسريع المشروع، إذ أدى تفكك بعض الدول العربية وتراجع مركزية القضية الفلسطينية، إلى جانب موجة التطبيع العلني والترويج الوقح لفكرة "الدين الإبراهيمي"، إلى دفع معسكر اليمين القومي-الديني نحو خطوات أكثر جرأة، وسط إصرار القادة الإر... هابيين مثل بنيامين نتنياهو وحلفائه من أحزاب المستوطنين على رفض قيام دولة فلسطينية، وسعيهم الحثيث لفرض السيادة الإسرائيلية على مساحات واسعة من الضفة الغربية، مع تعزيز الوجود العسكري والاستيطاني في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية. وتدخل غزة في هذه المعادلة بطريقة مختلفة عن الضفة الغربية، إذ لا تسعى إسرائيل إلى ضمها ديموغرافيا، لكنها تعمل على إعادة تموضعها الجغرافي والسياسي بما يخدم أمنها ومشروعها الأوسع. وتشمل خطتها فرض سيطرة أمنية دائمة على المعابر والمياه، وصياغة هيكل حكم داخلي يضمن بقاء القطاع منفصلا عن الضفة، وتحويله إلى كيان ضعيف يعتمد اقتصاديا على التسهيلات الإسرائيلية أو الترتيبات الإقليمية. وبذلك يصبح القطاع أداة ضغط على الفلسطينيين وحاجزا جغرافيا يمنع أي تواصل بين جناحي الأرض الفلسطينية. وبقدر ما تشكل غزة حلقة خاصة في هذه المعادلة، فإن طريقة التعامل الإسرائيلي معها تكشف حجم العجز العربي والدولي عن التأثير في مسار المشروع؛ فقد شهدت الساحة العربية مواقف اقتصرت على بيانات إدانة شكلية لم تتحول إلى سياسات ميدانية، وانشغلت الدول بصراعاتها الداخلية وحروبها الأهلية التي استنزفت قدراتها وإرادتها السياسية. كما انخرطت بعض الأنظمة في مسار تطبيع مفتوح مع إسرائيل، مما وفر لها غطاء سياسيا لتسريع مشروعها التوسعي وأضعف أوراق الضغط التقليدية، بينما قيدت الأزمات الاقتصادية والأمنية دول الجوار المباشر أو ربطتها ترتيبات أمنية غير معلنة مع تل أبيب، فقلصت من قدرتها على التأثير. وعلى المستوى الدولي، الحلفاء الغربيون، وفي مقدمتهم الولاياتالمتحدة، يواصلون دعمهم الفج والمباشر لأمن إسرائيل مع الاكتفاء بانتقادات إعلامية محدودة للاستيطان ودون اتخاذ إجراءات عملية، في وقت يعزز فيه تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في أجندات القوى الكبرى قناعة قادة الاحتلال الإسرائيلي بأن الوقت يعمل لصالحهم، وأن أي اعتراض خارجي يمكن تجاوزه عبر الدبلوماسية أو المساومات السياسية، أو حتى عبر توظيف قادة في المنطقة أسلموا زمام أمرهم له مقابل حمايتهم من شعوبهم. - وهكذا، لم تعد فكرة "إسرائيل الكبرى" حبيسة الخطاب الأيديولوجي، وقد تحولت إلى خطة طويلة الأمد تتحرك من المرويات الدينية العبرية إلى خرائط الجغرافيا السياسية، وتستثمر الوقت والقوة والفراغ العربي لرسم واقع جديد على الأرض. وتواصل إسرائيل تقدمها بين حدود المعتقدات الدينية وحدود الواقع، مستفيدة من كل ضعف عربي وكل فراغ سياسي لتوسيع نفوذها وترسيخ وقائع لا رجعة عنها. وإذا كان سؤال اليوم يدور حول القدرة على إيقاف هذا المسار، فإن سؤال الغد سينحصر في كيفية استعادة ما انتزعه العدو قبل أن يرسم الحدود النهائية لجغرافية كيانه السرطاني على الأرض العربية، ويغلق المجتمع الدولي الباب أمام أي فرصة لتغييرها، كما فعل في الماضي مستندا إلى التواطؤ والدعم الصهيوني العالمي في عواصم القرار الدولي.