في وطنٍ تتنازعه الجغرافيا وتنهكه الولاءات، تبرز تعز لا كمدينة، بل كفكرة. فكرة الدولة التي يحكمها القانون لا الأهواء، وفكرة الوحدة التي تنبع من الوعي لا من الإملاء. تعز لم تكن هامشًا في التاريخ، بل كانت في صلبه، تكتب فصوله بالعلم، وتدافع عنه بالصبر، وتعيد رسمه كلما حاولت الجغرافيا أن تبتلع المعنى. وحدوية أبناء تعز ليست موقفًا سياسيًا عابرًا، بل قناعة راسخة تشكّلت عبر عقود من النضال والمعرفة. لم تكن الوحدة بالنسبة لهم شعارًا يُرفع، بل مشروعًا يُخطط له، ويُكتب بوعي، ويُدافع عنه في كل مفصل تاريخي. هم من كتبوا أولى صفحاته، ودافعوا عنه حين تراجع الآخرون، واعتبروه ضرورة تاريخية لا خيارًا سياسياً. تعز لم تكن مركزًا للسلطة، لكنها كانت مركزًا للفكر، للثقافة، وللإرادة الحرة. من مدارسها خرجت بذور التعليم الحديث، ومن شوارعها انطلقت شرارات التغيير، ومن بيوتها خرج من حملوا همّ الوطن قبل أن يُطلب منهم ذلك. لم يخرج منها من تولّى الحكم، لكن خرج منها من علّم القادة، ومن كتب الدساتير، ومن واجه الاستبداد بالكلمة والموقف. ورغم كل ذلك، دفعت تعز الثمن باهظًا. عُطّلت مطاراتها، جُمّدت موانئها، وأُغلقت طرقها، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها قوية بما يكفي لتُقلق من لا يريد للوطن أن ينهض. ومع ذلك، لم تنكسر. خرجت كما تفعل دائمًا: أول من يصرخ، وآخر من يتعب. كانت نقطة الانطلاق، وساحة الحسم، وضمير الثورة. ما يميز أبناء تعز ليس فقط وعيهم، بل أخلاقهم. في زمنٍ طغت فيه العنجهية، أظهروا تواضعًا نادرًا، وصبرًا على الجهل، ومسايرة للحماقات التي كان يمكن أن تُفجر البلاد. لم يردّوا على الإساءة بالإساءة، بل قابلوا التهميش بالحكمة، والتجاهل بالعمل، والانغلاق بالدعوة إلى الانفتاح. هم أهل الصبر لا أهل صخب، وأهل بناء لا أهل ضجيج. تعز ليست مجرد مدينة، بل فكرة. ليست جغرافيا، بل وعي متجدد. خرج منها كل الأطياف، واحتضنت الجميع دون أن تفقد هويتها. فيها عاش من علّم الناس أن الطريق إلى الله يمر بالحب والمعرفة، وفيها لا تزال تُرفع صور من وقف معها يوم احتاجت، وفاءً لا نسيانًا. هي المدينة التي تنهض كلما سقطت، وتعود للحياة وكأنها خُلقت من رماد الأمل. وفي وطنٍ أنهكته الصراعات، تظل تعز صوت العقل، ونداء الحكمة، وفسحة الرجاء. من تعز، يجب أن تنطلق دعوة للصلح، لا للتنازع. فهي المدينة التي جمعت ولم تفرّق، واحتضنت الجميع دون تمييز. أهلها يؤمنون أن اليمن لا يُبنى إلا بالتسامح، ولا يُشفى إلا بالتكاتف. لكن المصالحة الحقيقية لا تعني التنازل عن المبادئ، ولا يمكن أن تكون مع من يسعى لإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل الثورة، أو من يرفض فكرة الدولة الحديثة. فتعز، التي دفعت ثمنًا غاليًا من أجل الحرية، لا تقبل أن تكون جسراً للعودة إلى الاستبداد، ولا أن تُستخدم كغطاء لتقويض حلم دولة النظام والقانون. إنها دعوة للسلام، نعم، لكنها مشروطة بالعدالة، وبالاعتراف بحق اليمنيين في وطن يحكمه القانون، لا الولاءات. ومن تعز، يمكن أن يبدأ هذا الطريق، لأنها لا تزال تؤمن أن الوطن يستحق الأفضل، وأن المستقبل لا يُكتب إلا بالعقل، والكرامة، والإرادة الحرة. تعز خرج منها القادة، لا لأنهم سعوا إلى السلطة، بل لأنهم حملوا مشروع الوطن في عقولهم وضمائرهم. هي المدينة التي لا تنكسر، بل تعيد تشكيل نفسها كل مرة، وتُعلّم الآخرين أن النهوض لا يكون إلا بالوعي، وأن الوطن لا يُبنى إلا بمن يؤمنون به فكرةً قبل أن يكون حدودًا.