مصطفى بن خالد في وطنٍ تتشظى فيه الحقيقة تحت وقع الطموحات الجشعة، وتُزهق فيه القيم أمام زحف الطائفية والمناطقية والانتهازية والولاءات الخارجية، ينبثق صوت نادر لا يشبه ضجيج المرحلة: صوت الشيخ محمد علي أبو لحوم، رجل بحجم الوطن لا بحجم المصلحة، لم يُغوِه بريق السلطة، ولم يُرعبه سطوة البنادق، بل أختار بثبات درباً صعباً لا يسلكه إلا من يؤمن أن الحكمة ليست ضعفاً، وأن السلام ليس استسلاماً . هو أحد القلائل الذين لم يتاجروا بدماء الناس، ولم يتكسبوا من آلام البلاد، بل ظل حاملاً لمشروع وطني صادق، ينحاز لليمن وحده، ويتجاوز الاصطفافات، واضعاً نصب عينيه دولة عادلة تتسع للجميع، وتنهض بالعلم والمعرفة والهوية الجامعة، لا بالغلبة والفرقة . هو ليس مجرد شيخ قبلي ينتمي إلى إحدى أعرق القبائل اليمنية ( نهم بن بكيل بن همدان )، ولا مجرد سياسي تدرّج في المجالس واللجان والمناصب، بل هو رجل مشروع وطني قبل أن يكون رجل منصب، صوتٌ عاقل في زمن الانفعال، وضمير نقي لم يلوثه بريق السلطة ولا إغراء الاصطفاف . لم يقف في صف المليشيات، ولا أرتهن لحسابات الخارج، بل اتخذ لنفسه مكاناً صعباً في الوسط : أن تكون يمنياً خالصاً في زمن الانقسامات القاتلة . حمل همّ اليمن لا كشعار، بل كمهمة يومية، ورأى في بناء الدولة العادلة واجباً لا يحتمل التأجيل، حتى وإن تخلى عنه الكثيرون وانصرفوا إلى موائد الحرب . من القبيلة إلى الدولة : حين يتحوّل الشيخ إلى صانع رؤية وُلد الشيخ محمد علي أبو لحوم عام 1960 في محافظة إب، في قلب بيئة مشبعة بالعرف والقبيلة والولاء التقليدي، لكنه لم يكن أبن تلك البيئة فحسب، بل كان ابناً لعقلٍ تمرد على القوالب الجاهزة، فاختار مبكراً أن يلبس عباءة الدولة لا عباءة النفوذ، وأن يتكئ على الفكر لا على العصبية . لم ينكر جذوره القبلية، لكنه تجاوزها إلى أفق أرحب، مؤمناً أن اليمن لا تُبنى بالتحزبات الضيقة، بل بعقلية مدنية تعيد تعريف السلطة باعتبارها مسؤولية لا غنيمة . سنوات دراسته في الولاياتالمتحدة وعمله في السفارة : خبرة أكاديمية ودبلوماسية عالمية خلال سنوات دراسته في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التحق الشيخ محمد علي أبو لحوم بأرقى المؤسسات التعليمية، حيث غرف من منابع السياسة والعلاقات الدولية . هذه الفترة لم تكن مجرد دراسة أكاديمية، بل كانت رحلة لاكتساب فهم عميق للقضايا العالمية، وعززت من قدراته على قراءة المشهد السياسي من منظور أوسع . لاحقاً، عمل في السفارة اليمنيةبواشنطن، حيث كان يمثل بلاده بنجاح وحنكة، مبنياً شبكة من العلاقات الدولية، مؤمناً بأن الدبلوماسية هي طريق السلام والمصالح المشتركة . في تلك المرحلة، اكتسب أبو لحوم خبرة عملية دبلوماسية أكسبته احتراماً عالمياً وجعلته رجل دولة من الطراز الرفيع . منذ خطواته الأولى في الحياة العامة، بدا واضحاً أن هذا الرجل لا يشبه " شيوخ المرحلة "، بل يمثل تحولاً نادراً من زعامة العُرف إلى قيادة الفكرة، ومن تقاليد القبيلة إلى مشروع الدولة . دخل الشيخ محمد علي أبو لحوم المعترك السياسي في وقت مبكر من حياته العامة، لا طامعاً في مكسب، بل مدفوعاً برؤية تبحث عن التغيير من الداخل . دور تنموي ورؤية إقتصادية ناضجة شغل الشيخ محمد علي أبو لحوم منصباً مهماً في وزارة التخطيط، حيث لعب دوراً محورياً في صياغة الرؤية التنموية لليمن. برؤية واقعية واتصالات واسعة، قاد مفاوضات ناجحة مع الدول المانحة والمؤسسات الدولية، وأسهم في توجيه المساعدات نحو قطاعات حيوية كالتعليم، والصحة، والبنية التحتية. لم يكن مجرد مسؤول، بل حلقة وصل فاعلة بين اليمن والعالم، تركت أثراً ملموساً في دعم الاقتصاد الوطني . شغل عضوية مجلس الشورى عام 1988، ثم أنتخب نائباً في البرلمان عام 1993، حيث ترك بصمة مميزة من خلال رئاسته للجنة الشؤون الخارجية، مؤكداً حضوره كصوت وطني متزن وسط زحام الشعارات . في عام 2004، أنضم إلى المؤتمر الشعبي العام، لكن انحراف البوصلة بعد أحداث 2011 دفعه إلى الانسحاب بشجاعة، غير مستسلمٍ لتيار الفوضى أو الانقسام، بل قرر أن يخط مساراً جديداً أكثر نزاهة ووضوحاً، فأسّس حزب العدالة والبناء : إطاراً مدنياً جامعاً، ينهل من روح الدولة لا من ميراث الغلبة، ويطرح بديلاً عقلانياً بعيداً عن الاستقطابات الحادة التي مزقت النسيج الوطني . ما يميز الشيخ محمد علي أبو لحوم حقاً، ليس حضوره السياسي فقط، بل جوهر الموقف الذي يحمله بثبات وهدوء . لم يكن واجهة في زمن التزييف، بل صوتاً وطنياً أصيلاً يرفض الانجرار وراء العنف، ويؤمن أن القوة الحقيقية تكمن في احترام التنوّع، لا في قمعه . رؤيته للدولة ليست شعاراً للاستهلاك، بل مشروعاً متكاملاً لدولة مدنية عادلة، تضع الحقوق والحريات والمواطنة المتساوية في صدارة أولوياتها، وتكفل لكل يمني مكاناً آمنًاً تحت سقف الوطن، بعيداً عن منطق الغلبة، والتمييز، والإقصاء . في زمن الاستقطاب الحاد، أختار أبو لحوم أن يكون جسراً وطنياً جامعاً لا أداة بيد أحد، مستنداً إلى إيمانه العميق بأن اليمن لا تُبنى إلا بكل اليمنيين، دون استثناء أو استعلاء . لامع الحرب ولا مع الاستبداد : مع اليمن فقط في مشهد يمني مشحون بالاصطفافات والانهيارات منذ 2014، حيث تقاس الولاءات بين فوهات البنادق وأجندات الخارج، أختار الشيخ محمد علي أبو لحوم أن يسلك طريقاً ثالثاً لا يجرؤ عليه كثيرون : طريق الانحياز لليمن فقط . رفض أن يكون جزءاً من ماكينة الحرب، كما رفض الاستسلام لإغراءات السلطة أو مشاريع التبعية . لم يُراهن على الحوثيين، ولا انخرط في صفوف الحكومة المعترف بها دولياً، ولم يساوم عبر أدوات التحالف أو وكلاء الإقليم . بقي ثابتاً في موقعه كصوت مستقل، يرى في السلام مشروعاً شجاعاً لا ضعفاً، وفي الدولة العادلة هدفاً لا وهماً، وفي السيادة مبدأ لا ورقة تفاوض . بهذا الموقف النادر، جسّد أبو لحوم ضميراً وطنياً رافضاً للابتذال السياسي والانقسام العبثي، واضعاً مصلحة اليمن فوق كل الحسابات . وفي الوقت الذي انشغل فيه كثيرون بإذكاء نيران الحرب، والتحشيد الإعلامي، وتوزيع الولاءات بغرض التكسب السياسي أو إثبات الوجود، كان الشيخ محمد علي أبو لحوم يسلك درباً مختلفاً : كان يكتب مبادرات لا خطابات، ويبني جسوراً لا متاريس، ويتحدث عن وقف الحرب حين كان مجرد الحديث يُعدّ خيانة في أعين المتصارعين . من قلب العاصمة صنعاء، حيث الصمت مكلف والكلمة محسوبة، أصرّ على أن الحل لن يكون إلا يمنياً – يمنياً، بالحوار لا بالإملاء، وبالعقل لا بالإكراه . لم يبحث عن دور، بل عن حلّ، ولم يطلب موقعاً، بل مستقبلاً آمناً لوطن أنهكته الأطماع . إيمانه العميق بأن الحوار، مهما طال، أقل كلفة من رصاصة واحدة، هو ما جعله أحد الأصوات القليلة التي لا تزال تحتفظ بمصداقيتها في زمن الازدحام بالشعارات . في عام 2021، قدّم الشيخ محمد علي أبو لحوم من واشنطن، عبر منبر "معهد الشرق الأوسط"، واحدة من أجرأ المبادرات السياسية وأكثرها نضجاً في المشهد اليمني المعقّد . دعا فيها إلى تشكيل إدارة انتقالية توافقية تُنهي الانقسام، وإلى وضع خطة أمنية شاملة لصنعاء تحت إشراف الأممالمتحدة، مع إشراك روسيا كلاعب دولي موازن يحدّ من اختلال النفوذ الإقليمي . كانت المبادرة بمضامينها المتقدمة تسبق الواقع بخطوتين، واقعية في تشخيصها، عقلانية في مقاربتها، وشجاعة في توقيتها . لكنها – كما الكثير من المبادرات المخلصة – أصطدمت بجدار صلب من عناد الداخل ولا مبالاة الخارج، وغياب الإرادة الدولية القادرة على إنصاف شعب يتألم بصمت . ورغم ذلك، ظل أبو لحوم مؤمناً بأن الأفكار الصادقة لا تموت، وأن مشروع السلام الحقيقي يبدأ دوماً من نقطة شجاعة مثل هذه . دبلوماسي بلا حقيبة : نَفَس الوسيط ورؤية رجل الدولة يمتلك الشيخ محمد علي أبو لحوم شبكة علاقات واسعة تمتد من الخليج إلى أوروبا، ومن الميادين السياسية اليمنية إلى دوائر القرار الدولي . لكن ما يميز هذا الرجل عن غيره من السياسيين هو الطريقة التي يستخدم بها هذه العلاقات : ليس للمتاجرة بالمناصب أو لتحقيق طموحات سلطوية، بل لإشاعة السلام وتوسيع دائرة الحوار . أبو لحوم لم يسعى يوماً إلى دور الوسيط من أجل المكاسب الشخصية، بل اختار أن يكون صوتاً عقلانياً في أوقات الغليان، وجسراً بين الأطراف المتنازعة . لم تقتصر مهمته على اقتراح الحلول، بل كان دائماً حاضراً في فتح مسارات للحوار العميق والتواصل الهادئ، متخففاً من أي ضغوط سياسية أو إقليمية . هذه الرؤية التي تتجاوز الذاتية أو الطموحات الفئوية، جعلت منه دبلوماسياً بلا حقيبة، حاملاً فقط أعباء وطنه ومشاكل شعبه في قلبه وعقله، على أمل أن تُفتح أبواب السلام قريباً في عالم يزدحم بالصراعات . لم يكن الشيخ محمد علي أبو لحوم يوماً تاجر مواقف أو صائد فرص، بل ظل ثابتاً على مواقفه في أصعب اللحظات، رغم تكاليف الاستقلالية التي دفعها من موقعه . في عالم امتلأ بالمراهنات السياسية والمواقف المتبدلة، اختار أبو لحوم الطريق الصعب مسيراً بصدقٍ لا يتزعزع . دفع ثمناً لثباته في كل خطوة، لكنه أبقى على كرامته وقيمه، ليكسب في النهاية ما هو أغلى من أي منصب أو نفوذ : احترام الشارع اليمني، ذلك الشارع الذي ضاق ذرعاً بالاصطفافات الحادة والتقسيمات العبثية . ظل صامداً، ليس من أجل أن يكسب سلطة أو منصباً، بل من أجل أن يكسب مكانه في وجدان الناس، الذين عرفوا فيه الرجل الذي ينحاز للوطن أكثر من أي شيء آخر . رجل المرحلة... الذي تجاهله الإعلام على الرغم من ثقل وزنه السياسي، ومصداقية مواقفه التي لا يختلف عليها اثنان، ظل الشيخ محمد علي أبو لحوم في ظلال التهميش الإعلامي، حيث عمد الإعلام الرسمي والممول إلى تجاهله، لأنه ببساطة لا يخدم أجندة أحد، ولا يساوم على المبادئ، ولا يلعب على الحبال . لم يُكرَّم كما يستحق، ولم يُمنح أدواراً في المؤتمرات الصاخبة، ولم يُدرج أسمه في واجهات التفاوض الكبرى، رغم أنه كان دائماً في قلب الحدث، يحمل هموم الوطن في كل لحظة . لكنه، ورغم كل ذلك، لم يتراجع عن طريقه، بل ظل مؤمناً بأن دور الشرفاء لا يحتاج إلى أضواء الإعلام ولا الأوسمة الزائفة . بل على العكس، يحتاج إلى صبر طويل، حتى يدرك الآخرون الفرق بين الضجيج والصوت الحقيقي، وبين المواقف الطارئة والمواقف المستدامة التي تشكل مستقبل الأوطان . الخلاصة : حين تكون الحكمة سلاحاً في بلدٍ تمزقه السلاح والولاءات الضيقة، يظل الشيخ محمد علي أبو لحوم أحد الأسماء التي تتحدر من معدن نادر، يمثل قيمة وطنية بامتياز . هو صوت العقل الذي لم تضعف نبضاته أمام أهواء الحرب أو مكائد الصراعات . في عالمٍ مليء بالشعارات الزائفة والمواقف المتقلبة، يظهر أبو لحوم كأحد الفرسان القلائل الذين ما زالوا يؤمنون بأن الوطن لا يُبنى بالثأر، ولا تُدار الشعوب بالخوف، ولا تُصان السيادة بالتبعية . لم يكن يوماً صاحب شعارات براقة أو دعاية فارغة، بل كان دائماً رجلاً يُحيي مبادئه بحياة بسيطة وصادقة . هو الذي لا يهاجم أحداً، لكنه في المقابل لا يقبل المساس بمصلحة الوطن أو سيادته، مهما كانت الضغوط . في معركة طويلة بين الحرب والسلام، يبقى أمثال أبو لحوم أملاً صامتاً، يعملون بصبرٍ لا يتوقف، ويؤمنون أن الطريق إلى السلام هو طريق طويل ولكن ممكن . هم الحراس الحقيقيون لفكرة الوطن، دون ضجيج أو استعراض . ربما تأخرت اللحظة التي تستمع فيها النخب اليمنية إلى صوت العقل، لكن حين تأتي، سيكون أبو لحوم حاضراً كما كان دائماً : حارساً لفكرة الوطن، صوتاً ثابتاً في وجه الرياح المتقلبة، وحلماً بواقع أفضل، واقعٌ يتجاوز الانقسامات ويعانق وحدة الشعب اليعربي . من حائط الكاتب على الفيسبوك