حسن الدولة بالصدفة، فتحت صفحة الصديق المناضل اليساري "فوزي العريقي" على الفيسبوك، فوجدت منشورًا قصيرًا عن الأستاذ "علي أحمد مقبل غثيم" أعاد فيه التذكير بهذه القامة الوطنية الفارقة، بأسلوب مكثف لكنه عميق المعنى. ولأن من حسن الصدف أنني كنت قد زرت الأستاذ علي قبل يومين فقط – يوم الخميس الموافق 13 أغسطس 2025م – برفقة صديقنا المشترك، اللواء محمد عروة، فقد شعرت أن من واجبي كتابة هذا المقال، لا لتلميع شخصية لا تحتاج إلى التلميع، بل لإضاءة سيرة رجل يستحق أن يُكتب عنه، ويُحتذى به. رجلان من معدن واحد : ما جمعني بالأستاذ علي مقبل غثيم في تلك الزيارة، هو صديقه وتوأمه في النبل والخلق، اللواء محمد عروة، وكلاهما من خريجي أول دفعة من كلية الشرطة بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م المجيدة وهي دفعة استثنائية ضمت أسماء كبيرة في العمل الوطني والسياسي والفكري، مثل: جار الله عمر، ومحمد عبد السلام منصور، والفريق عبد الملك السياني، ومحمد البروي، وأحمد محمد الأنسي، وغيرهم من النخب التي صنعت ملامح الدولة اليمنية الحديثة. إنّ اجتماع رجلين من هذا الطراز لا يمكن أن يكون مصادفة فقط، بل انعكاس لتقاطع قيم ومبادئ ومواقف راسخة في حب الوطن، والإيمان بالناس، والعمل بصمت، والابتعاد عن البهرجة الإعلامية والضجيج السياسي. وتصويبا لمنشور الاستاذ فوز العريقي، ان الاستاذ علي لم يكن رئيسا لجهاز الامن السياسي قبل الوحدة السلمية عام1990م التي عمد انفصالها بالدم في حرب ظالمة عام1994م، وصحيح انه عمل في الامن الوطن ي مديرا لفرع تعز وحظي بإحترام كبير من كل قيادات الاحزاب السياسية التي كانت تعمل في السر حيث كانت الحزبية محرمة وذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي و، وبعدها تقلد مناصب عديدة ساشير الى بعضها حسبما تسعفني الذاكر ولقد كان نزيها نظيف اليد بشهادات من عايشوا الأستاذ علي، حيث نجد أننا أمام نموذج نادر لضابط أمن لم تنسه وظيفته إنسانيته. فخلافًا لما تكرس من صورة نمطية سلبية عن أجهزة الأمن، كان الأستاذ علي نموذجًا مضادًا: رجل أمن يحترم الحريات، ويقدّس حق الإنسان في التعبير والاختلاف، ويؤمن بأن الانتماء السياسي أو الفكري لا يُجرّم صاحبه، بل يُثري الوطن. وقد أوضح العريقي – بشكل غير دقيق – أن الأستاذ علي ترأس جهاز الأمن السياسي، بينما الحقيقة أنه كان في السبعينيات مديرًا لفرع الأمن الداخلي في تعز. وقد سألته في لقائنا الأخير كيف استطاع، رغم موقعه الأمني الحساس في وقت كانت فيه الحزبية محظورة، أن يحظى باحترام جميع الأحزاب والتيارات، بمن فيهم من كانوا يعملون في السر. فأجاب بثقة المتواضع: "أنا أؤمن بحرية الرأي والاعتقاد، وأؤمن أن من حق أي إنسان أن ينتمي إلى الحزب أو الفكرة التي يعتقد أنها تخدم وطنه وتنتشله من براثن التخلف والاستبداد". هذه القناعة العميقة بالتعددية والحرية السياسية كانت بوصلة سلوكه، في العمل الأمني، كما في كل المناصب التي تولاها لاحقًا. وكما اشرت أنفا فإن من ابرز المناصب التي المناصب الحيوية، التي شغلها الأستاذ علي مقبل غثيم انه عين مديرا لفرع الامن الوطني بتعزخلال سبعينيات. القرن الماضي ورئيسا لجهاز المركزي المركزي للرقابة والمحاسبة، حيث ترك بصمته المهنية والأخلاقية في أداء المؤسسة وعضو اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام وعضوا في البرلمان قبل الوحدة وكان عضوًا في هيئة رئاسة مجلس النواب،وقد قدّم استقالته من رئاسة جهاز الرقابة والمحاسبة ليترشّح للبرلمان، في سابقة تعكس احترامه للمؤسسية وشفافيته بعد حرب صيف 1994م، ففقد الفضل انسحاب من الحياة السياسية، محتفظًا بمكانته كرمز وطني مستقل لا يبتغي منصبًا ولا يبحث عن الأضواء. وتعود الى فترة معرفتي به في بدلية ثمناينيات القرن العشرين حين تولى الأستاذ علي قيادة الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير خلفا لأحد كبار مؤسسي العمل التعاوني الاستاذ عبدالله حسين الحلالي طيب الاه ثراه في الجنة ، وكلاهما استقطبا للعمل التعاوني اللواء محمد عروة، الذي كان مديرًا عامًا للإدارة العامة للخدمات. وكنت آنذاك مديرًا لفرع بنك التعاون الأهلي للتطوير في تعز وإب، ثم كُلفت بالإشراف على أعمال حفر الآبار الارتوازية في تعز من قبل اللواء محمد عروة بالإضافة الى عملي كمدير لفرع البنك الذي اندمج مع بنك التسليف الزراعي تحت اسم بنك التسليف التعاوني والزراعي (كاك بنك). وقد امتد عملنا في حفر الابار حتى وصلنا إلى منطقة "معبق"، حيث أدخلنا الحفار من حدود الشطر الجنوبي حينها. كان الأستاذ علي خير خلف لخير سلف وهو الاستاذ عبد الله الحلالي رحمة الله تغشاه، وكان مثالاً على القيادة التي توظف المنصب لخدمة الناس لا لخدمة الذات. لم تكن شهادة فوزي العريقي وحدها التي أنصفت الأستاذ علي. فقد كتب اللواء عبد العزيز عامر – أحد قادة الحرس الجمهوري والمناضلين البعثيين – عنه قائلاً: "الرجل يتحلى بصفات قلّ ما نجدها في الآخرين حين يتحملون مسؤولية في الدولة... كان نظيف اللسان واليد، في كل مراحل حياته الوظيفية، سواء في الجانب الرسمي أو المدني. عرفته عن قرب، منزله مفتوح، وصدره كبير، لم يردّ طلبًا لأحد...". وحين يجتمع يساري سُجن في عهد الأجهزة الأمنية، وبعثي عاش في دهاليز السياسة والعسكر، على شهادة واحدة في حق رجلٍ خدم في جهاز أمني، فنحن أمام حالة استثنائية من القيادة الوطنية الإستثنائية لا يمكن إنكارها وهذا ما يؤكد ان المشكلة ليست في المؤسسة، بل في الإنسان. لقد برهن الأستاذ علي مقبل غثيم أن الشرف لا يمنحه المنصب، ولا يسقطه الانتماء. أن الزي العسكري يمكن أن يكون راية عدل لا عصا قمع، إذا ارتداه صاحب ضمير. وهو، رغم كل المناصب والمواقف، ما يزال الرجل البسيط المتواضع، الذي يعمل بصمت، ويتحدث بهدوء، ويتمسك بأخلاق المناضلين الكبار. إنه شاهد حي على أن المؤسسات، أياً كانت، تكتسب شرفها من رجالها، لا من تسمياتها. وإنّ الانتماء لأي جهاز – أمنيًا كان أو مدنيًا – لا يجب أن يُحاكم بمعزل عن سلوك الفرد. فالسلوك هو ما يكتب سيرة الإنسان، ويثبت له موقعه في صفحات التاريخ البيضاء. تحية إجلال وتقدير للأستاذ علي أحمد مقبل غثيم... الرجل الذي جعل من النزاهة والانتماء الصادق عنوانًا لمسيرته، ومن الوطنية سلوكًا لا شعارًا.