شهدت مليشيا الحوثي تصعيدًا غير مسبوق في صراعاتها الداخلية، عقب القصف الإسرائيلي الذي استهدف حكومتها غير المعترف بها دوليًا في صنعاء، نهاية أغسطس الماضي. هذا القصف المفاجئ كشف هشاشة هرم المليشيا، وأدى إلى تبادل واسع للاتهامات بين الأجنحة المختلفة حول المسؤول عن الاختراق الأمني الذي اعتبرته المليشيا غير مسبوق. كانت صدمة القصف مدوية، خصوصًا بعد إعلان مقتل رئيس أركانها القيادي محمد الغماري، مما زاد من حدة التوتر بين الأجنحة المتنافسة على النفوذ والسيطرة، وكشف الانقسامات العميقة داخل هرم قيادة المليشيا، وأظهر الصراع المستمر على السلطة بين جناحي السلالة والقبيلة.
تزامن ذلك مع إعادة تموضع قيادات الصف الثاني لتعويض غياب الصف الأول، مع ظهور محدود للقيادات العليا في المناسبات العامة، والاعتماد على تسجيلات وتصريحات محدودة لتقليل الانكشاف، مما يعكس حالة القلق الكبير التي تعيشها المليشيا.
وضعت هذه الأحداث مليشيا الحوثي أمام حقيقة صارخة، وهي أن صراع الأجنحة بات اليوم معركة مصيرية من أجل البقاء والسيطرة، وهو ما يعكس هشاشة المليشيا الداخلية وضعف بنيتها القيادية بعد الخسائر الأمنية المفاجئة.
جذور الصراع
تعود جذور الصراع بين الأجنحة الحوثية إلى عدة عوامل مترابطة، كانت بدايتها الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي دُمّرت فيها معسكرات المليشيا الخاصة، وقتل فيها رئيس أركانها محمد الغماري، وهو ما اعتبرته صدمة كبيرة، إذ نُفذت هذه الضربات وفق معلومات لم تكن متاحة إلا للقيادات العليا وأجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية.
قبل هذا الحدث، كانت المليشيا معتادة على حروبها المدعومة إيرانياً في مناطق خارج سيطرتها، ما منحها تفوقًا مبدئيًا وأتاح لها فرصة لبناء قدرات وأطماع في إقامة دولة وحكومة جديدة، لكن الضربات الأولى داخل مناطق سيطرتها كشفت هشاشة بنيتها الداخلية، وانكشفت صراعاتها، خصوصًا بين أجهزتها العسكرية والأمنية.
التنافس السلالي والقبلي على المواقع القيادية والأجهزة الأمنية والمخابراتية شكل عاملًا أساسيًا للصراع، إذ يسعى كل جناح للسيطرة على الموارد الاقتصادية والإيرادات والتحويلات المالية، بالإضافة إلى المخاوف من الاختراقات الخارجية والتخابر مع إسرائيل، وهو ما يبرر حملات الاعتقالات والترهيب المستمرة.
تراجع الدعم الإقليمي للمليشيا، مثل حزب الله اللبناني، والأوضاع في سوريا والعراق، زاد من شعور المليشيا بالهشاشة، وعزز حدة المنافسة الداخلية بين الأجنحة، كما ساهم عجز المليشيا الحوثية عن تنفيذ مشاريع الدولة في تحويل التركيز على القوة العسكرية والأمنية لتعزيز النفوذ والسيطرة.
كل هذه العوامل تشكل دائرة متشابكة من الضغوط الداخلية والخارجية التي غذت الصراعات بين الأجنحة، وجعلت كل جناح يعتمد على أدواته العسكرية والسياسية لتثبيت مكانه وحماية مصالحه، مع تصاعد الشكوك المتبادلة بين القيادات.
مظاهر الصراع
تجلت مظاهر الصراعات بين أجنحة المليشيا الحوثية في اختفاء قيادات الصف الأول عن المشهد العام، مثل أحمد حامد وعبد الكريم بدر الدين الحوثي ومحمد علي الحوثي ووزير الدفاع المعين، مع الاعتماد على تسجيلات وتصريحات محدودة، مما يكشف عن تراجع ظهور القيادات العليا وخسارتها للثقة المتبادلة فيما بينها.
كما شملت الصراعات حملات اعتقال واسعة، استهدفت حتى الموالين للمليشيا، مثل أمين سر ما يسمى المجلس السياسي الأعلى القيادي الحوثي ياسر الحوري بتهمة التخابر مع دول أجنبية، واختطاف الموالي عابد المهذري بالتهمة ذاتها، مما يعكس حالة الخوف والشك بين الأجنحة.
كما أن الاعتقالات والترهيب أصبحت أدوات رئيسية لفرض السيطرة، حيث أصبح كل جناح يراقب الآخر بعين حذرة ويعتمد على الاعتقالات والترهيب لإحكام قبضته على منافسه، فيما تتوسع الصراعات بين الأجهزة الأمنية والمخابراتية والسياسية.
ولا شك أن تفاقم الصراع بين أجنحة المليشيا الحوثية قد أضعف قدرتها على إدارة مناطقها، وعجزها عن تشكيل حكومة إلى اليوم، إذ أصبحت المليشيا "تأكل نفسها" في معاركها الخاصة على السلطة والموارد، الأمر الذي يؤكد مزيدًا من الفوضى داخل المليشيا وخلق بيئة من الخوف والشك الدائم بين قياداتها.
أبرز الأجنحة
برز جناح السلالة بقيادة يوسف المداني، المعين خلفًا للغماري، والذي يستمد قوته من قربه لعائلة الحوثي وعلاقاته بالحرس الثوري الإيراني، ويشرف على التدريب وتهريب الأسلحة. وفي مقابل ذلك، يقود جناح القبائل عبد الله الرزامي، الذي يعتمد على ولاء القبائل وشبكاتها التقليدية، ويشكل منافسًا مباشرًا لجناح السلالة في صراعات السيطرة.
مع إعادة نفوذ المداني إلى صنعاء في 2014، تخلّى الحوثي عن شعار "الدولة" وركز على بنية المليشيا، مما أدى إلى تصاعد الصراعات بين الأجهزة المختلفة واعتقال كل جناح للموالين للآخر، كما برزت الخلافات داخل الصف الأول، خصوصًا حول علي حسين الحوثي، نجل مؤسس المليشيا، الذي يُقدم كوريث محتمل للسلطة، مما دفع عبد الملك الحوثي إلى تقليص ظهوره الإعلامي للحد من نفوذه.
ويؤكد مراقبون أن الأجنحة الحوثية تتنافس على السيطرة على الموارد العسكرية والأمنية، وعلى مواقع النفوذ داخل الأجهزة، بما يضمن لكل جناح تعزيز سلطته واستمرارية وجوده ضمن الهيكل الداخلي للمليشيا، مؤكدين أن تأثير هذه الصراعات سيمتد إلى انخفاض قدرة المليشيا على إدارة مناطقها، حيث تصبح كل محاولة لبسط السيطرة مرتبطة بصراع داخلي مستمر بين أجنحتها.
تلعب إيران دورًا مباشرًا في هذا الصراع، من خلال دعم جناح السلالة، وتزويده بالأسلحة وتدريب عناصره، واستخدام علاقات المداني بالحرس الثوري لتعزيز نفوذه، خصوصًا بعد تراجع قوة حلفاء إيران في المنطقة مثل حزب الله ونفوذهم في سوريا والعراق مما عزز حاجة المليشيا للاعتماد على الدعم الإيراني لترسيخ نفوذ جناح السلالة.
كما يرى مراقبون أن هناك قوى إقليمية تسعى لاستخدام الأجنحة كورقة ضغط لتحقيق مصالحها، ما يزيد هشاشة المليشيا ويفتح المجال للصراعات الداخلية، حيث يسعى كل جناح لإثبات أنه الأكثر أحقية بالسلطة والنفوذ، خصوصا بعد اعتماد الأجنحة الحوثية المتصارعة على مصالح الأطراف الخارجية لتعزيز مكانتها.
يأتي هذا في حين تتزايد حالة القلق والشك بين القيادات، ما يعكس هشاشة المليشيا وقدرتها المحدودة على الحفاظ على تماسكها الداخلي، في ظل الدور الإيراني الذي ساهم في تعميق الخلافات، حيث يعتمد كل جناح على دعم خارجي محتمل لتثبيت موقعه، وهو ما يجعل المليشيا أكثر عرضة للانقسام والفوضى الداخلية.
انشقاقات متتالية
وفي تطور لافت، أعلن القيادي البارز عبد الرقيب معوضة انشقاقه عن صفوف المليشيا الحوثية، مصحوبًا بتسجيلات صوتية قال إنها تكشف ملفات فساد وابتزاز أخلاقي وتصفيات داخلية لقيادات حوثية بارزة، وذلك في وقت تتصاعد فيه الخلافات داخل أجنحة المليشيا السياسية والعسكرية، وتنامي حالة السخط في صفوف مقاتليها والقيادات الوسطى.
معوضة، الذي انضم إلى المليشيا منذ عام 2002 وكان من القيادات الميدانية في جناحها الأمني والعسكري، وفي تسجيل صوتي متداول على منصات التواصل الاجتماعي، تحدث عن شبكة فساد وابتزاز أخلاقي داخل المليشيا، مشيرًا إلى تورط قيادات عليا في استغلال النساء للإيقاع بمسؤولين معارضين داخليًا والتخلص من خصومهم.
وقال في أحد المقاطع التي تجاوزت 12 دقيقة وانتشرت على منصة "إكس" (تويتر سابقًا): "سيُكشف قريبًا كيف تُستخدم النساء كأداة للابتزاز والتصفية داخل المليشيا".
تزامن انشقاق معوضة مع سلسلة انشقاقات جديدة داخل المليشيا الحوثية خلال الأسابيع الأخيرة، أبرزها انشقاق الشيخ عبده أحمد عوض، قائد جبهة "حاضية" في تعز، الذي أعلن انضمامه إلى قوات "العمالقة الجنوبية" التابعة للمجلس الرئاسي اليمني، مصطحبًا عشرات من مقاتليه.
كما سبقه العميد صلاح الصلاحي، قائد اللواء العاشر "صماد"، الذي انضم إلى الجيش الوطني في مأرب، كاشفًا عن نقص حاد في الإمدادات العسكرية وتدهور الحالة المعنوية للمقاتلين بسبب ممارسات قيادات المليشيا وغسيل الأدمغة الذي يتعرض له المجندون، وأكدت مصادر محلية أن الحوثيين شنّوا حملات مداهمة واعتقالات ضد أسر المنشقين في محافظاتتعز والحديدة وصنعاء، في محاولة لاحتواء موجة الانشقاقات التي تهدد تماسك بنيتهم العسكرية والأمنية.
رواية صادمة عن مقتل الصماد
ومن أبرز ما تضمنته التسجيلات المنسوبة إلى معوضة، رواية مغايرة عن مقتل صالح الصماد، أحد أبرز قادة الحوثيين، والذي أعلنت المليشيا مقتله في غارة جوية عام 2018، حيث قال معوضة إن الصماد قُتل داخل منزل القيادي محمد أبو طالب في صنعاء القديمة، على يد مسؤول أمني رفيع يدعى أبو أحمد محمد علي الحوثي، وليس في هجوم خارجي كما رُوّج رسميًا من قبل إعلام الحوثيين، مؤكدا أن المليشيا لفّقت التهمة لأبناء تهامة لإخفاء حقيقة التصفية الداخلية، مستغلة الحادثة لإذكاء خطابها الطائفي ضد المكونات اليمنية الأخرى.
ويرى مراقبون أن هذه المزاعم إن ثبتت صحتها تمثل تحديًا خطيرًا للسرد الرسمي للحوثيين، وتكشف عن عمق الانقسامات والصراع على النفوذ داخل المليشيا، خصوصًا بعد مقتل قيادات أخرى مثل محمد عبد الكريم الغماري في أغسطس 2025، والذي اعترفت المليشيا بمقتله بعد شهرين من الواقعة.
ويرى مراقبون أن ما يجري داخل مليشيا الحوثي ليس مجرد "خلافات فردية"، بل صراع أجنحة على النفوذ والمال يتسع مع طول أمد الحرب، مؤكدين أن "التسجيلات المسربة مثل تلك التي نشرها معوضة لا تُعد مجرد فضائح شخصية، بل تمثل بداية لانكشاف منظومة الفساد والصراع الداخلي الذي يضرب مفاصل المليشيا من الداخل".
وأكد مراقبون أن التحالف بين جناح صعدة وجناح صنعاء بدأ يتآكل مع بروز طموحات قيادات عسكرية شابة تطمح للنفوذ والثراء، مما يجعل المليشيا أمام تحدٍ وجودي إذا استمرت موجة الانشقاقات بالوتيرة نفسها.
السيناريو الأسوأ
إجمالا، تعيش مليشيا الحوثي اليوم حالة من الفزع نتيجة الصراعات بين أجنحتها، حيث تبحث بعض القيادات عن وساطة خارجية لتهدئة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية مقابل شن حروب محدودة في الداخل لإعادة ترتيب تماسك المليشيا.
ومع ذلك، لا تثق قيادات المليشيات الحوثية بأجنحتها المتعددة في قدرتها على خوض صراعات واسعة، لذا تناقش خيار حروب بديلة تنفذها جماعات مسلحة متفرقة بحسب مناطقها، بينما تستمر الاعتقالات الداخلية وتبديل القيادات.
فالصراع بين الأجنحة الحوثية يترك مستقبلها مفتوحًا على مزيد من الانقسامات والانشقاقات. ومع استمرار هذه الصراعات، يؤكد مراقبون أن المليشيا تتجه نحو مزيد من الانهيار السياسي والعسكري، حيث تتحول صراعات الأجنحة الداخلية إلى تهديد مباشر لبنيتها وأهدافها، مما يجعل مستقبلها على المدى القريب غامضًا ومفتوحًا على السيناريوهات الأسوأ.