لم يكن الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقر حزب التجمع اليمني للإصلاح في محافظة تعز، الخميس الماضي وأسفر عن مقتل اثنين من قياداته وإصابة آخرين، حادثًا معزولًا عن سياق التحريض السياسي والدعاية الممنهجة التي يتعرض لها الحزب. ففي بيئة مشحونة بالكراهية والخطاب الإقصائي، تتراجع فرص العمل السياسي المدني، ويتنامى خطر العنف الذي لا يهدد فصيلًا بعينه، بل يضرب في عمق التعددية والنسيج الاجتماعي على حد سواء. وقد أسفرت العملية عن استشهاد اثنين من القيادات السياسية للحزب، إضافة إلى إصابة أكثر من 13 شخصًا، بينهم مدنيون ومارة، وهو ما دفع حزب الإصلاح إلى إعلان موقفه منذ اللحظة الأولى، داعيًا الجهات الأمنية للقيام بواجبها الدستوري والوطني في التحقيق في ملابسات الحادثة، وكشف خيوطها، وملاحقة من يقفون خلفها وتقديمهم للعدالة.
رد الإصلاح وخطابه المعتدل
في هذا السياق، تمسّك الإصلاح بخطابه المعتدل والمسؤول، مبتعدًا عن التشنج وتوجيه الاتهامات، ورغم جسامة ما تعرض له، لم يوجّه أصابع الاتهام إلى أي جهة، كما يفعل البعض، بل تصرّف بمنتهى المسؤولية الوطنية، موجّهًا رسالته إلى مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها أجهزة إنفاذ القانون، وعلى رأسها الشرطة. وهو تصرّف حضاري وسلوك مدني طبع مسيرة الإصلاح منذ تأسيسه في 13 سبتمبر 1990.
ويبرز الخطاب السياسي والإعلامي للإصلاح، مقارنة بغيره، التزام الحزب بالمنهج السلمي والعمل المؤسساتي، حتى وهو يواجه حملات تحريض ممنهجة من قوى عاجزة عن بناء حضور مجتمعي حقيقي، فتلجأ إلى العنف بدلًا من التفاعل الإيجابي مع المجتمع.
هذا الخطاب نابع من تقدير دقيق لخطورة ما حصل، وخطورة توظيفه سياسيًا، وإدراك بأن التسرّع في إصدار الأحكام أو توزيع الاتهامات الجزافية لا ينسجم مع سلوكه السياسي ولا مع رؤيته في تمكين مؤسسات الدولة الدستورية والوطنية في مختلف المحافظات.
وتُعدّ تصريحات قيادات الإصلاح عقب الحادثة تذكيرًا واضحًا بخطورة اللجوء إلى خطاب الكراهية، ونهج السرد الدعائي الكاذب، وتوظيف الحوادث الأمنية ضد الخصوم السياسيين، انطلاقًا من حقيقة أن مثل هذا السلوك لا بد أن ينعكس سلبًا على أصحابه. فحين يُفتح باب التوظيف السياسي، وتُطلق العنان للأحكام والاتهامات الجزافية، فإن ذلك يعني ببساطة العودة إلى شريعة الغاب، وإضعاف مؤسسات الدولة بدلًا من تعزيزها.
ومن وجهة نظر الإصلاح، فإن اللجوء إلى الدولة ومؤسساتها يعكس ثقة بالنفس، ويعيد الاعتبار لمؤسسات القضاء، ويصون حق الرأي العام في معرفة الحقيقة كاملة دون تلاعب أو إخفاء.
تاريخ العنف ضد الإصلاح
ولم تكن هذه الحادثة الأولى، وربما لن تكون الأخيرة، في ظل بروز الميليشيات المسلحة المنفلتة، وخطاب الكراهية عبر الإعلام غير المسؤول، حيث لا تجد بعض الأطراف نفسها إلا في اختلاق الأكاذيب بحق الآخرين. وقد تعرّض حزب الإصلاح طوال تاريخه لأعمال عنف متكررة، ودفع ثمنها من أعضائه وقياداته وممتلكاته، ويتجلى ذلك في حادثة اغتيال أربعة من أعضائه في محافظة حجة عام 1997، والتي شهدت خلال تشييعهم رفع آلاف المواطنين لافتات تندد بالإرهاب وتطالب بالتحقيق في الحادث، كما يتضح في حادث آخر عام 1998 حين تم العثور على متفجرات مزروعة بالقرب من منزل رئيس الإصلاح في محافظة شبوة، إلا أن الحزب أكد حينها أن نهجه السياسي واضح وثابت في رفض العنف وإثارة القلاقل.
وفي عام 2013 تعرّضت مقراته للاستهداف من عناصر في الحراك الجنوبي المتطرف بمحافظة الضالع، كما استُهدفت مقرات الإصلاح في محافظة حضرموت من قبل عناصر تحمل ذات الخطاب المناطقي. وفي عام 2017، اقتحم مسلحون يرتدون زي قوات أمنية مقر حزب الإصلاح في مدينة كريتر بمحافظة عدن وأضرموا النار فيه، وتبيّن لاحقًا وجود جهات تقف وراء عمليات اغتيال طالت العديد من كوادر وقيادات الإصلاح في محافظات الجنوب، تقودها خلايا اغتيالات خارجية.
وبالمثل، عقب سيطرة مليشيات الحوثي على العاصمة صنعاء ومؤسسات الدولة في سبتمبر 2014، تعرّضت مقرات الإصلاح للمداهمة والاقتحام والنهب، واستُهدفت قياداته وكوادره بالاعتقال والاغتيال.
ورغم كل هذا العنف، لم يلجأ الإصلاح إلى الرد أو المعاملة بالمثل، أولًا لأنه حزب سياسي يؤمن بالعمل السلمي والسياسي والمدني، وثانيًا لإدراكه خطورة مجاراة جماعات تتخذ من العنف وسيلة، حيث تتجاوز أضرار هذا النهج الخصومة السياسية لتطال المجتمع بأسره. وثالثًا، لأن الإصلاح وضع في صلب أهدافه العمل على تجذير الحوار، وترسيخ التعايش، وقبول الاختلاف، والاحتكام إلى القانون، وتعزيز مؤسسات الدولة.
العنف يستهدف الجميع
غير أن استهداف الإصلاح، رغم ما يخلّفه من حزن وألم، قد يشجّع أطرافًا ترى في الاغتيالات والتفجيرات أداة مشروعة، على تجاوز الخطوط الحمراء، إذ قد لا يروق لها موقف هذا الطرف أو ذاك غدًا، فتجعله هدفًا لها، فمن يحمل السلاح ولا يؤمن إلا بالعنف لا يقبل الاختلاف، ومن لا يكن معه أو تابعًا له يصبح هدفًا، بغض النظر عن أيديولوجيته أو مواقفه. ومن الخطورة بمكان الاعتقاد أن المستهدف هو الإصلاح وحده؛ فصحيح أن هناك قوى مدعومة ترى في الإصلاح خصمًا لما يمثله من غنى وتنوّع، واحتضانه لأعضاء من مختلف فئات المجتمع، ودفاعه عن النظام الجمهوري والوحدة والحريات، إلا أن العنف الأعمى والمنفلت لن يدع طرفًا سياسيًا خارج دائرة الاستهداف، لأن أصحابه لا يريدون أي نوع من العمل السياسي، بل الفوضى والاختلال الأمني.
وعندما تُطلق لغة العنف والكراهية، يصبح الجميع مستهدفين، فالبلاد، في وضعها الراهن، لا تحتمل تقويض ما تبقّى من آليات العمل السياسي، بما في ذلك الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، في ظل انتشار الميليشيات المسلحة وضعف مؤسسات الدولة. ويقع على عاتق القوى السياسية، مهما بلغت خلافاتها، مسؤولية إدراك أن استهداف القانون والدولة يتم اليوم على يد قوى عنيفة تسعى لإخراج السياسة من المجال العام. في هذا السياق، يكتسب خطاب قيادة حزب الإصلاح بعد الحادثة دلالة تتجاوز رد الفعل، ليقدّم قراءة أعمق لمعنى الاستهداف وآثاره على فكرة الدولة والتعددية السياسية، وهو ما عبّر عنه المتحدث الرسمي باسم الحزب عدنان العديني بالقول: "يرتكز ارتباط الإصلاح باليمن على إرث طويل من النضال السياسي الذي تشكل في ظروف بالغة التعقيد، حيث تبنى الحزب مشروع الدولة ومواجهة تبعات ذلك الانحياز الوطني.لذا، فإن استهداف مقرات الحزب في المدن الرئيسية كصنعاءوعدن مثل اغتيال للتعددية السياسية، وساهم في تغييب مفهوم الجمهورية وإضعاف الدولة كفكرة جامعة لكل اليمنيين".
وأضاف العديني في منشور كتبه على حسابه بموقع تويتر "لقد كشفت المنعطفات التاريخية هشاشة الروابط التي حاولت بعض القوى تسويقها كممثل وحيد لليمن، بينما أثبتت الأزمات أن المعاني الوطنية الكبرى تُختبر بالتضحيات لا بالشعارات. فاستمرار الإصلاح في مساره الوطني، رغم ما يدفعه من ثمن، هو تأكيد عملي على القدرة على تحمل الاستنزاف في سبيل الحفاظ على فضاء يتمكن فيه اليمني من قول لا في وجه أي سلطة".
الخاتمة
وهكذا، يكشف الهجوم الأخير على مقر الإصلاح بتعز وما تبعه من رد فعل مسؤول، عن مفارقة عميقة في المشهد اليمني: ففي الوقت الذي تلجأ فيه قوى إلى العنف لفرض رؤيتها، يصر الإصلاح على الاحتكام للدولة والقانون، مؤكداً أن العنف لا يبني وطناً بل يقوضه.
يعكس هذا النهج المبدئي في وجه الاستهداف الممنهج لقوة الإصلاح ويؤكد أنه يمثل جدار الصد الأخير ضد الانزلاق الكامل نحو شريعة الغاب، ويبقى الرهان على أن تدرك كافة الأطراف أن استهداف أي مكون سياسي هو في الحقيقة استهداف لجميع القوى، وأن لا نجاة إلا بتعزيز الدولة وسيادة القانون.