عشية الثورة المصرية كتب الشاعر المصري الكبير "عبد الرحمن الأبنودي" مدفوعاً بحرارة ميدان التحرير: آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز. لكنه عاد بعد ستة أشهر فكتب نصّاً غزيراً نشرته صحيفة التحرير في أربع صفحات مستقلة. حمل هذه المرة عنواناً مهزوماً: لسّه النظام ما سقطش. كانت هذه الجملة الرفيعة قد تحوّلت خلال عام ونصف إلى عقيدة مصرية راسخة قبل أن يقلب "الإخوان المسلمون" الطاولة على الجميع. قال بيان الجماعة/ الحزب: نتعهد بأننا لن نترك راية الثورة تسقط. حدث هذا قبل أربعة أشهر، أما بالأمس فقد رأيت الرئيس الإخواني/ المصري يتجوّل في الخليج. في الواقع، في التاريخ، تمر الثورة- عندما تكون بالفعل ثورة مكتمل الشروط- عبر اختبارات جهد شاقة. ربما تحتاج إلى عمليات تصحيحية ثورية، أي جذرية، قد تصل إلى أكثر من أربع مرات، كما هي قصة الثورة الفرنسية، مثلاً. في رواية "الكونت دي مونت كريستو" الواقعية يسرد إلكسندر داموس قصة بحّار شاب يطارَد بتهمة التخطيط لإسقاط الحكم الملكي الجديد، بعد حوالي ثلث قرن على سقوط حكم الملك لويس السادس عشر تحت أقدام الثوار الفرنسيين. أما تاريخ الثورة الفرنسية فيقول حقائق أكثر قسوة من سردية داموس. كذلك، انتصرت الثورة الأميركية في 1776، لكنها تركت مشاكل "الولايات ال 13" العميقة دون حل جذري. خرج المستعمر وبقيت أميركا تحت حوافر رغبات ومشاريع وترتيبات 13 حاكماً متنافساً. أدت هذه الوقائع الجديدة، ما بعد الثورة، إلى الحرب الأهلية سنة 1861م، أي بعد تسعة عقود على الثورة. في زمن ما بين الاستقلال والحرب الأهلية تمنت نسبة كبيرة من الأميركيين عودة المستعمر البريطاني. لكنهم الآن يحتفلون بيوم الاستقلال كأن تلك الحروب الأهلية لم تحدث، وكأن الثورة انفجرت بالأمس ولم تتعثر قط. بيد أن هنالك، في التاريخ الإنساني، ثورات اختفت إلى الأبد، وثورات أسقطت الأنظمة ثم أدت إلى تفكك دالة الدولة بلا رجعة. وفي غير ذات مرّة انسحبت الدولة عن الخريطة رويداً رويداً في مشهد تراجيدي يشبه انفصال "الطوف الحجري" لخوسيه ساراماغو، حتى تلاشت عن الوجود. ليس مهمّاً الآن من هو ساراماغو، بل كم هي الصورة مأساوية وممكنة. في الطلْعة الأولى للثورة العربية جرت نقاشات رفيعة، في استوديهات القنوات الفضائية، حول الفارق الدقيق بين الثورة والانتفاضة، الثورة والاحتجاجات، الثورة والفوضى. غير أنه من الممكن القول أن الثورة العربية هي خليط من كل ذلك. يمكن بيسر استنتاج حقائق عامة: الثورة العربية خاضت معركتها في مواجهة أنظمة وليس دولاً. لم تدم المعركة مع النظام، بحسبانه شبكة متجانسة من الأجهزة الأمنية والمالية والإعلامية، طويلاً. لكن النظام أيضاً، في لحظات زمنية حاسمة، كان قد نجح في تحقيق الحد الأدنى من الأمن والسلام الاجتماعي. ليس لأنه نظام وطني، بل لأنه احتكر الجريمة واللصوصية، أي أن لصوصه المجرمين منعوا ظهور الجريمة واللصوص الجدد. لقد كانوا في طريقهم إلى تخليق ما يسميه علماء الاقتصاد السياسي بالدكتاتورية المستنيرة. للبروفيسور منصور ويلسون، الحائز على نوبل، شروحاً مطوّلة حول هذه الفكرة. بيد أن هذه الملاحظة يمكن أن تكون ذات موضوع فيما لو أن دالتها هي تونس، أو مصر. في اليمن يبدو الأمر نائياً بعض الشيء، عصياً ومراوغاً. بعد سقوط النظام الحاكم، أي غياب اللصوص الذين حفظوا الأمن عبر احتكار الجريمة، تنشأ ثغرات جسيمة في نسيج المجتمع، تربك الجماعة الوطنية والثورية. أي يدخل المجتمع في ما يمكن أن نسميه، لو استعملنا أدوات مالك بن نبي، بالقابلية للفوضى. في هذا الفراغ، اللانظام، يتحرك النظام الساقط الآن كشبكة من المجرمين، إذ لم يعد ملتزماً الآن بالحيلولة دون ظهور مجرمين جدد. على العكس من ذلك، يعمل جاهداً لأجل خلق فرق جديدة من المجرمين الجوّالين تكون مهمتها منع ظهور الدولة. سينظر للدولة بوصفها العدسة المحدبة التي ستكشف عن حجم كوارثه وخرائب ماضيه. فضلاً عن ذلك، يفكر اللصوص بطريقة المقامر، ولعلم النفس الاجتماعي تفصيلات معمقة حول هذه الفكرة. فهم لا يفقدون الأمل في الماضي أبداً. لذلك يفكر نظام المسخ في اليمن: لن تمروا. تحول نظام صالح من "القوي رقم واحد" إلى واحد من الأقوياء المتراتبين في فضاء يشهد نمواً نوعياً سريعاً لقوى "الفاعلين غير الرسميين في اليمن" كما يتوقع عنوان كتاب نشره مركز الجزيرة للدراسات، سنة 2011. الخطورة تكمن عند هذه النقطة المفصلية. فنشوء جماعات فوضى متعددة الجهات والولاءات والمرجعيات يخنق الثورة. وفي لحظة معيّنة، عندما تنهك الفوضى الجميع ويقتنعون بضرورة البحث عن حل وطني عام، لن يكون بالمقدور الاتفاق على خارطة طريق وطنية انطلاقاً من مسوّدة الثورة التي أسقطت النظام الحاكم. بل كتسوية، أي كتوازن حرج لخرائط المصالح المتناقضة والمتنافسة. قد نحصل، في المشهد الأخير، على تسوية على طريقة "قطط أفريقيا المفترسة". وهي تلك الحيوانات من ذوات الناب التي تتفق غريزياً على إدارة منطقة صيد بعينها عبر قانون "احترام الكبير واجب". أي خلق تراتبات وجيوب واستثناءات يمكن أن يصدق فيها أي توصيف معرفي، سوى أن تكون مقدمة لدولة ديموقراطية على الطريقة الحديثة. هنا يمكننا أن نقول: الثورة ترجع إلى الخلف. فيما لو اتفقنا على أن مثل هذه الصورة ممكنة، أو وشيكة، فإننا كجيل لهذه الثورة نطرح على أنفسنا الأسئلة الحرجة: كيف نفلت من هذا الاختناق؟ أي: كيف ننجو بالثورة؟ هناك مقترحات نظرية مستحيلة، على شاكلة العودة إلى الوضع المبدئي، وخلق حجاب للجهل. أي: صياغة مسودة للمستقبل لا تنحاز لأحد بعينه، بافتراض أنه ليس بمقدور أحد أن يطالب بانحياز تشريعي يخص جماعته أو جهته فلا أحد يرى المستقبل الآن، أي كلنا نجهله. إلى ما سوى ذلك من افتراضات "راولز" وغيره من مفكري العدالة المرموقين. وهي افتراضات نظرية تصلح تماماً لمجتمعات ما قبل وسائط المعلومات والإعلام الفائق. في الواقع، الوطن شأن يخص المستقبل. أما الثورة فهي استثمار في هذا الشأن الأكثر خطورة، وهي المعنية بحراسة نفسها والذود عن مسودتها، وأحلام شهدائها. أن تواجه كل هذا السديم، كل هذه الفوضى المفترسة عبر شبابها لا شيوخها، إذا صحت فرضية أن للثورة شيوخ. بيد أن الحقيقة الكبيرة هي أنه ليس بمقدور أحدِنا أن يقول بالضبط: ما الذي ينبغي علينا فعله. أثناء كتابة هذا المقال صدر القرار الجمهوري بتشكيل اللجنة الفنية للإعداد للحوار الوطني. تتشكل اللجنة من 25 عضواً. غالبية أعضاء اللجنة يمثلون جهات شاركت في إسقاط النظام ولم تشترك في الثورة. دعونا نتوسّل: ليتها آخر اللجان. بالمناسبة: منذ حوالي نصف قرن ونحن نشترك في حوار وطني جديد على أنقاض حوار وطني سابق. نقدس الحوار الوطني كعملية، كصيرورة، ولا ننتظر النتائج. لدينا "عملية حوار"، شبيهة بعملية السلام التي لم تفض حتى الآن إلى سلام على الأرض. فنحن لا نكترث بالوصول إلى حلول وطنية قابلة للحياة على المدى الطويل. وفي الغالب: نجد صعوبة حادة في سبيل ذلك، بسبب وقوعنا تحت طائلة المتناقضات المستعصية التي تجعل من مهمة خلق جسر وحيد للعبور عملاً شاقاً، وربما مستحيلاً.