لم يكتمل هلال الثورة العربية المعاصرة حتى اللحظة. لكن من المؤكّد أنه سيكتمل، فالجماهير تخوص بكثافة وشراسة معركتها الأخيرة ضد الرجعية، ضد الماضي، ضد الضباط الأحرار لمصلحة الجماهير الأحرار، ضد القمع لصالح العدالة، ضد التضليل لصالح المعرفة، ضد الأسر الحاكمة لمصلحة الشعب ذي السيادة والقدرة، ضد القلّة المندسة لأجل الأكثرية العلنية، ضد توريث النظام لجماعة قليلة العقل والدين لصالح أبدية الدولة بلا إكراه في الديموقراطية ولا الدين، ضد الفرد الأحمق المتوحّش لصالح الجماعة المتنوعة، ضد إدارة الاختلاف بالدسائس لأجل إدارة الخلاف والاختلاف عبر التسامح والعدالة. "لأكثر من ثلاثة أجيال ونحنُ نحكم عبر فردانيات تتمتع بالمستوى الأقل من الذكاء والأخلاق، وتقريبا بالانعدام شبه الكلي في الرؤية " نحن بصدد كتل بشرية لا سابق لها، تنطلق تحت مظلة جملة سياسية شديدة الدلالة والإيجاز: الشعب يريد إسقاط النظام. إنه نظام، وإنها أنظمة، وليست دول. المسافة بينهما أكبر من أن تُقاس، والفرق بينهما هو ذلك الفرق بين حكم اللصوص وسيادة القانون. الدولة شأن كبير لا علاقة له بالفرد المتوحّد، بطريرك المافيا القاتلة. إننا نقول: النظام المصري، لكن ليس بمقدورنا الحديث عن «النظام الألماني». إنها الدولة الألمانية، دولة الأمة الألمانية: سيادة القانون المفضي إلى العدالة والرفاه. دالة «النظام المصري» خلقت مساواة على نمط «سواسية، نحنُ كأسنان كلاب البادية» كما يرى الشاعر مطر. إنها تتخايل تلقائياً على هيئة جماعات فتّاكة مسكونة بمهمة حاسمة: تكديس أكبر قدر من الثروة، مع تطويع القوانين وأجهزة القهر للعمل على خلق الظروف الملائمة لاستمرار هذه العملية القذرة. يجري الأمر في اليمن على نحو شديد الشبه، شديد التماثل. لقد تأخر الرد الجماهيري كثيراً لكنه وصل أخيراً: الشعب يريد إسقاط هذه الأنظمة، استرداد دولته، تفكيك «حكم القراصنة» وإنجاز دولة الميريتوقراطي (حكم الكفاءة والجدارة). لأكثر من ثلاثة أجيال ونحنُ نحكم عبر فردانيات تتمتع بالمستوى الأقل من الذكاء والأخلاق، وتقريبا بالانعدام شبه الكلي في الرؤية. حتى الزمن ضنّ عليهم بالفهم والحكمة، يا له من لئيم. الأقل ذكاء ينتج سلالة منسجمة معه، متطابقة مع قدراته الذهنية: سيورثنا الأعاريب الأغبياء والقتلة إلى أنجال جدد تقول البيولوجيا إنهم سيكونون أقل ذكاء من آبائهم، وتقول السوسيولوجيا إنهم سيكونون أكثر شراسة وعنفاً، ويقول البحّارة: لا بد وأن يكونوا أشد فتكاً في أعالي البحارة من آبائهم القراصنة، بفعل الدم الشاب في شرايينهم! الدولة لا دينَ لها، فهي ليست أكثر من دوائر وظيفية متداخلة تعمل طبقاً لمسوّدات لوائحية وإجرائية من شأنها جعل حياة البشر أكثر تناغماً وأمناً ورفاهاً. النظام هو الذي «له دين». دين الأنظمة العربية هو «الدولار»، و»البترودولار». إنه تلك العقيدة التي تملي الدساتير والقوانين والقرارات والتموضعات، ثم تقتل المواطنين بذريعة الدفاع عن هذا الدين الرشيد. لقد قتل النظام المصري بالذريعة ذاتها «سيادة القانون» 300 شاباً في أسبوع واحد، وقتل النظام اليمني أكثر من عشرة آلاف في ستة حروب باستخدام ذات المشجب، ونفس آلة القتل. يجتمع الحقوقيون العرب والدولين، الآن، لجرجرة قادة النظام المصري إلى محكمة الجنايات الدولية وأمام قضاء عديد دول أوروبية ذي اختصاص النظر في قضايا دولية. لكن النظام اليمني لم يتفرّغ له أحدٌ بعد، مع أن أبناء الجنوب في أوروبا يقولون إنهم قد بدأوا رحلة الدفاع عن الدم الطاهر في محاكم العالم النظيف. يقولون النظام إنه يعرفهم جيداً وإنهم فقط يجعجعون. ونحن الذين لسنا في النظام نتمنى لو أنه لا يعرفهم جيداً، وأنهم يفعلون. الجماهير تريد الدولة، لأنها الجملة الكلية التي تنتظم أشواق الناس، مصالحهم، أمنهم، ومستقبل سلالتهم. الدولة، كمنجز كلّي، لا علاقة لها بالمرجعيات الكلّية العابرة للحدود، وهي منفصلة عن الدين وليست موازية له، كما يرى المفكّرون الإسلاميون الأكثر حداثوية. في دولة المدينة يمكن لعمال مسلمين أن يعملوا في بناء كنيسة، والعكس. أما قانونها المدني الإجرائي فيمكن صياغته في هيئة مصفوفة كبيرة تراعي حساسية المجتمع، دينه، ثقافته، أعرافه، مواضعاته، وتطلعاته الاستشرافية المستقبلية. في العام 1955م اجتمع الرئيس عبد الناصر بقانونيين ومثقفين مصريين لإجراء نقاش حول الدستور المصري، فقال له المفكر والأديب طه حسين: لا يمكن أن نسن قوانين غير إسلامية لمجتمع إسلامي. " عندما يفوز الإسلاميون بأغلبية برلمانية عبر انتخابات نظيفة فإننا لن يكون بمقدورنا أن نتحدث عن «إرادة الإسلاميين» بل عن «إرادة الأغلبية الشعبية». في الواقع، لا يختلف كثيرون من المثقفين العرب عن رجال الشرطة العرب سوى في أمر واحد" على سبيل المثال، في المجتمع ذي الأغلبية المسلمة، يمكن تأليف قانون التعليم والبحث العلمي بالنظر في اللائحة الأميركية، لكن قانون الأحوال الشخصية سيرتكز في الأساس على مرجعية المجتمع الثقافية والأخلاقية وعقيدته الدينية (المواضعات الإسلامية بتكييفات معاصرة قابلة للحياة، في مجتمع ذي أغلبية إسلامية). ستكون المهمة النهائية للدولة الحفاظ على الكليات الاجتماعية العامّة، مسنودةً بالمقولة الفقهية القديمة: حيثما تكون مصالح العباد فثم شرع الله. هذا الشكل النهائي لدولة الغد، دولة العدالة والشرعية، التي انتظرناها كثيراً من المفترض أنه لن يترك مساحة كبيرة للهلع ممّا يسمى- على نحو شديد السطحية – الدولة الدينية. فلا أحد يروم هذا النمط من الدولة، لأنها جزءٌ من الماضي. على وجه التحديد: الدولة الدينية نمط قديم ينتمي إلى العصور الوسطى الأوروبيّة، ولا يجدر بأي كائن بشري معاصر أن يفكر باستجلابه. الفقه الإسلامي المعاصر ينظر إلى الدين بوضعه أربعة أعمده: عقائد، عبادات، معاملات، أخلاق. وبالنسبة للمعاملات، القوانين، يمكن الحديث عن لوائح وتشريعات مستمدّة من الفقه الإسلامي بمعالجات معاصرة تعززمقولة «القانون الإسلامي يصلح لكل الأزمنة». يمكن العثور على «قانون إسلامي» في المعاملات» البيع والشراء، الزواج، إلخ» وفي العقوبات. هناك مجتمعات عربية عديدة تتمتع بقانون في الأحوال الشخصية والمعاملات مستمد من الفقه الإسلامي، بما في ذلك مصر. تكمن المشكلة الرئيسة في فساد أجهزة القانون والقضاء لا في الجودة النوعية وكفاءة القانون، الذي ليس أكثر من علاقات خطية فاقدة للقدرة الكلية على القهر. بالنسبة للعقوبات فثمة صياغات إجمالية - موجودة في كتب القانون والفقه الإسلامي- يمكن إخضاعها للتكييف والتعديل المعاصرين انطلاقاً من الكليات العامة التي يصدر عنها التصور الإسلامي الكلي: مصلحة البشر، شريطة أن تعتقد الأغلبية أن أي عملية تكييف أو تقنين هي أمر يؤكد هذه المصلحة العامة، على نحو لا يغلب عليه الشك. على أن الأمر لا يبد أن يراعي التالي: إن صياغة قانون عامٍ لا ينبغي أن تترك خلفها جماعات أو فئات تشعر بالقهر والهزيمة. إذ لا بد أن يتوافر القانون الإسلامي على معنى «إنساني» يمكن التعرف عليه وإحساسه بيسر. إن القانون، أي قانون، لا بد أن يكون انعكاساً وتجسيداً لرغبة وإرادة وتواطؤ الأغلبية، شريطة أن يراعي الأقلية، طقوسها ومسوّداتها السلوكية والعقدية والاجتماعية. هذا اللون من التفكير سيجعلنا نتساءل عن سر النواح والنحيب الذي يبديه المفكرون العرب- أولئك الذين يقرأون الروايات ويشاهدون الأفلام ولا علاقة لهم بعد ذلك بالتفكير- من وحش «الإسلاميين» المفترس، ومن هجومهم الضاري على المجتمعات! علينا أن نتذكر أمراً جاداً: عندما يفوز الإسلاميون بأغلبية برلمانية عبر انتخابات نظيفة فإننا لن يكون بمقدورنا أن نتحدث عن «إرادة الإسلاميين» بل عن «إرادة الأغلبية الشعبية». في الواقع، لا يختلف كثيرون من المثقفين العرب عن رجال الشرطة العرب سوى في أمر واحد: يقرأوا روايات أكثر منهم. وعندما نقول «رواية» فنحن نتحدث عن فن بديع يضع على عاتقه التزاماً مفاده أنه سيغدو فقط نسيجاً للحكي «راح، نظر، تأمل، شعر بمرارة» مفرّغاً إلى أبعد مدى من أي سياقات للتفكير والطروحات العلمية العقلية المحضة! بالنظر إلى «العقائد، العادات» يمكن ملاحظة أن هذه الحقول هي مما لا يتيح المجال لإعادة التفكير فيها. لأنها أشبه بتوطؤات ومواضعات يفرضها – بالصورة التي عليها- مجرّد الإيمان من داخل الدين وليس من خارجه. وهي، كما هو بيّن، دوال لا يمكن إخضاعها للجدل. فلا يمكن القول بأن طريقة الأقباط في الصيام بحاجة إلى إعادة نظر، كما من اللامعقول محاججة المسلمين حول فكرة، وتفاصيل، شعيرة الحج. في كتابه «عدو المسيح» يصرخ نيتشه: البوذية أرقى مائة مرّة من المسيحية؛ وبالنسبة لنيتشه فإن السبب وراء ذلك هو أن البوذية ترى الإنسان متألمّاً يسعى إلى الفكاك من ألمه. بينما تراه المسيحية مذنباً يهفو إلى الخلاص من ذنبه. هذه المقاربات والمفاضلات أشبه بعملية رياضية، مهما بلغت درجة ذكائها، ستفضي في الأخير إلى تقهقر فضيلة التسامح والتعايش السلمي، وتقوّض السلام البشري. فالمسيحية هي ما هي عليه، كذلك الزرادشتيه واليهودية والاسلام. لقد كان النص القرآني يتحدث عن كتب السابقين ويصفها بالمحرّفة عندما كان يخاطب المسلمين ويعلّمهم. لكن النص ذاته كان يخاطب هؤلاء «الآخرين» بأصحاب الكتاب بصرف النظر عن سلامة متنه عندما يتوجه إليهم بالخطاب بصورة مباشرة. لقد احترم طريقتهم في العبادة، وضعية دينهم المتواطأ عليها، ونمط تصورهم للإله والكون. ما إذا كان هذا النمط صحيحاً أو خاطئاً يصبح موضوعاً آخر يعد الخوض فيه «ازدراءً للأديان». وهذا سلوك مخيف يقوّض فكرة المنتدياتية البشرية ويفسح مكاناً واسعاً لأن يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان. كان القرآن صارماً وهو يدفع الناس بعيداً عن مثل هذه السياقات التي تخنق فضيلة التسامح و حتمية المعايشة: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله، فيسبوا الله. " تسعى الشعوب إلى إنجاز الدولة، باختصار لأنها تحافظ على كلياتهم الخمس، بالإذن من الإمام الشاطبي: النفس والنسل والدين والمال والعقل. أما النظام- والمشهد العربي تتصدره أنظمة على حساب الدول- فهو مجموعات بشرية متقاطعة ومترابطة ذات امتيازات نفوذ وثروة" تسعى الشعوب إلى إنجاز الدولة، باختصار لأنها تحافظ على كلياتهم الخمس، بالإذن من الإمام الشاطبي: النفس والنسل والدين والمال والعقل. أما النظام- والمشهد العربي تتصدره أنظمة على حساب الدول- فهو مجموعات بشرية متقاطعة ومترابطة ذات امتيازات نفوذ وثروة. يعمل النظام على خصخصة الأمن والجيش والمال والإعلام لخدمة مشروعه، لإدامة مصالحه. تختفي الدولة هُنا: الإقليم، البشر، السيادة. يجري العبث بالإقليم، التفريط بسيادته، والتعامل معه كما لو كان عجينة طريّة لمصلحة «مخابزات» النظام. البشر، في الأنظمة الحاكمة، يصبحون تكتلاً زائداً عن الحاجة. خذوا هذا المثل: يشهد العالم أهم أربع قوى اقتصادية صاعدة «البرازيل، إندنوسيا، الهند، الصين». من ضمن أسباب كثيرة جعلت من هذه الدول اقتصادات صاعدة، لافتة للنظر، يوجد سبب مشترك في هذه الدول الأربع : رأس المال البشري، الكثافة السكانية الغزيرة. لكن النظام العربي – اليمني مثالاً- بمقدوره أن يفسّر حالة الانهيار التام التي يعيشها المجتمع بحسبانها ناتجاً تاريخياً « لفشل المجتمع في تحديد النسل». هذه تفاهة شديدة السطحية، لكنها ليست موضوع حديثنا. بالمناسبة: هناك تفاهات عميقة، لكن فيما يبدو فإن هذا النوع من التفاهات العميقة يصعب العثور عليه لدى تفوهات أفراد النظام في اليمن. عندما وقف الأستاذ- وحين يُقال الأستاذ ينصرف الأمر مباشرة إلى «هيكل» دون الحاجة إلى ذكر اسمه، يعتقد محبوه- أمام نكسة حزيران 67، تذكرها جيّداً. حدد الأدوار، وقال أموراً كثيرةً ضد عبد الحكيم عامر وصلت إلى حد اعتقاده بأن «الكوماساترا» استحوذت على تفكير الرجل وأربكت حساباته. لكنه نحّى، فيما يبدو، كل تلك الأسباب العميقة التي أنتجت نكسبة 67، ثم اختصر المشهد العربي آنذاك بجملة واحدة: هذا ما يحدث عندما يكون لديك نظام، وليس دولة! قديماً كانت الدولة: إقليم، بشر، سيادة، كما في أدبيات الفرنسي بودون في القرن السادس عشر. فيما بعد حلت الشرعية محل السيادة، أو اختزلتها. تطوّر تعريف الدولة في التفكير الإنجليزي، جان لوك وتوماس هوبز، لكنه عاد مرة أخرى إلى التفكير الفرنسي مع مونتسكيو وروسّو: حريّة، إخاء، مساواة. كانت هذه الجملة هي مانشيت الثورة الفرنسية. وكان واضحاً أنها تعني في دلالتها النهائية: شرعية الحكُم باعتباره تراضٍ- عقد اجتماعي- مع المحكوم، على أن يحس المحكوم بأن الأمر كذلك بالفعل، بمعزل عن سلطة القهر التي قد تطوّعه لكي يظن أن الأمر كذلك. جاءت الشرعية لتحسم مفهوم الحكم في الدولة، وتستبدل جزءً كبيراً من مفهوم السيادة بفكرة التعاقد ورضى الأطراف. وحين يقال «الشرعية» فإن الأمر ينصرف تلقائياً إلى «رضا الجماهير». لاحظوا أن حسني مبارك- الرئيس المخلوع- تحدّث في خطابه الذي ألقاه رابع أيام الثورة المصريّة عن شرعيته. كان يقصد، بالطبع، الخمسة ملايين صوتاً الذين حصل عليهم في انتخابات 2005 الرئاسية، متجاهلاً تماماً وجود 8 ملايين مواطناً مصريّاً يهتفون في الشوارع والميادين بنزع شرعيته! لأن حسني مبارك ينتمي إلى نظام، لا إلى دولة، فإنه ليس بمقدورِه أن يفهم الشرعية كما يجري في كل الدنيا، لكنه يستخدمها للتطويع، للقهر، للتمويه على عملية اختطاف الدولة من قبل قلة مندسة، أوليغاركية، ذات امتيازات نفوذ وثروة. تعمل الجماهير الآن على تقويض الأنظمة وإنجاز الدول. إنها ورشة عمل شاقة، لكن عمّالها يدركون جيّداً طبيعة عملهم. لقد رأينا شابين مصريين في ميدان التحرير وهما يرفعان يافطة تقول: متعبناش، متعبناش. الحرية مش ببلاش! ننظر الآن إلى هذا المشهد العربي الواسع، بتموجاته ورجرجاته ونحنُ نقول بلغة تنتمي إلى هذا العصر، عصر الشعوب الحرّة: تسقط الأنظمة، تعيش الدول. تسقط القلّة المندسة، تحيا الأكثرية الواضحة. يسقط الفرد المتوحش الجاهل، تعيش الجماعة البشرية المتسامحة. تسقط الخيول والجمال، يعيش الفيس بوك .. يعيش المستقبل.