الأحد الأسود: لم يكن يوم الأحد الثامن عشر من سبتمبر من العام الماضي يوماً عادياً في اليمن، فقد كان يوماً مفصلياً كاد نظام صالح أن يهوي فيه باليمن إلى دائرة الحرب الأهلية، لولا تعقل الثوار وقادة العمل الثوري الذين عضوا الأنامل امتصاصاً لغضب ردة الفعل وعدم الوقوع فيه لإنجاح الفعل السلمي الثوري في ظل تشابك أيادي إقليمية ودولية لإفشال الثورة اليمنية كما تشابكت في الماضي ضد ثورة سبتمبر. ووسط تدشين الثوار المرحلة الثانية من التصعيد الثوري في بداية سبتمبر ووصولها ذلك اليوم إلى أوج المرحلة التصعيدية، خرجت مظاهرة حاشدة، بعشرات الآلاف، من ساحة التغيير بصنعاء، وسط إصرار الثوار على الحسم. ومرت بشارع الزراعة لتكون وجهتها عبور جولة "كنتاكي" إلى شارع الزبيري والستين والعودة إلى ساحة التغيير للتحرر من السجن الكبير الذي بات يعرف بساحة التغيير وجمود الثوار فيه، واجتياز الخط الأحمر الذي فرضته قوات صالح على الثوار فيما بات يعرف بخط التماس. وفور وصول المظاهرة إلى باب القاع جوار الجامعة القديمة، وإذ بقوات من الأمن المركزي والحرس الجمهوري والمسلحين المناصرين لصالح ممن بات يطلق عليهم "البلاطجة" تمنع مرور المسيرة رغم سلميتها. ودون سابق إنذار، وبينما كان شباب من لجان النظام يفاوضون تلك القوات للمرور بسلام؛ حتى قامت تلك القوات بإلقاء قنابل الغاز السام الخانق على المتظاهرين وترشهم من العربات المدرعة بمياه الصرف الصحي العادمة المخلوط بالأسيد الحار، وفتحت النار عليهم مباشرة بالرصاص الحي من بنادق الكلاشنكوف ورشاشات 12/7 المركب على الأطقم المضاد للطيران ومن رشاشات العربات المدرعة.
مجزرة القاع الأولى وتساقط الشهداء: كان المكان ضيقاً تتزاحم أوساطه البيوت وسط سوق شعبية وأسوار جامعة صنعاء ومكتظاً بالحشود الثورية، طوقت القناصة الحشود من أعلى البيوت المطلة على الشارع ومن مؤسسة الكهرباء ومن أمامهم قوات الأمن المركزي بعرباتها المدرعة تسد مداخل القاع الجنوبية، بينما كان المسلحون يسدون المنافذ الشرقية ويعتلون البنايات المجاورة، وفور تصويب قوات الأمن أسلحتها تجاه الثوار انهالت عليهم القنابل الغازية والرصاص الحي من كل جانب حتى اختنق المكان بالسحب الزرقاء والدخانية من القنابل، وبدأ الشهداء والجرحى بالتساقط، لم يستثن منها شيخ كبير ولا طفل صغير، وفي لحظة بسيطة سقط 18 شهيداً وأصيب المئات بالرصاص الحي وبالغاز السام الخانق والرجم بالحجارة من قبل البلاطجة علاوة على إطلاقهم الرصاص الحي على المتظاهرين. وكان ممن أصيبوا في ذلك المكان بالرصاص الحي الدكتور محمد الظاهري رئيس اللجنة التنظيمية، حيث اخترقت رصاصتان يده وجنبه، كما أصيب الأستاذ أحمد القميري عضو الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح برصاصة في صدره، وأصيب مصور قناة سهيل نصر النمر برصاصة في رأسه، لكن إصابته لم تكن قاتلة بل سطحية، كما أصيب المصور في المركز الإعلامي للثورة محمد عبدالملك الصلوي برصاصة اخترقت قدمه، واستمرت تلك الاعتداءات على المتظاهرين حتى وقت صلاة المغرب.
إصرار المتظاهرين على العبور: ففي ذروة تلك الاعتداءات والاشتباكات كانت المظاهرة قد انقسمت إلى قسمين؛ قسم واصل تظاهراته في نفس المكان رغم الهجوم الشرس وأصروا على العبور، وبالفعل عبروا من شارع الكهرباء إلى جولة "كنتاكي"، وقسم تراجع وعبر إلى جولة "كنتاكي" من الدائري من جوار ركن الجامعة القديمة الجنوبي، وقسم منهم تراجع إلى أمام البوابة الشمالية والالتفاف إلى شارع الدائري وجوار جولة "كنتاكي" وتجمعت المظاهرة هناك، وهناك سقط المزيد من الشهداء والجرحى، حيث قامت قوات صالح المرابطة في جولة "كنتاكي" ومن معسكر اللواء الثاني حرس جمهوري هناك ومن القناصة والبلاطجة في حوش مصلحة الطرق، بمواصلة الاعتداء وقنص المتظاهرين والشهداء في تزايد مستمر. لم يكن أحد يعلم من أين ستأتيه منيته في ذلك اليوم ومن أي الرصاصات التي تمر جوار أذنيك ولا تسمع لها إلا أزيزاً كأزيز النحل، بينما أصوات القنابل وصيحات الله أكبر من الشباب هي التي تدوي في أرجاء المكان.
ملحمة أسطورية: في تلك اللحظات من الاعتداءات على الثوار قامت قوات الفرقة الحامية للمدخل الجنوبي للساحة بإعادة المتظاهرين من جولة "كنتاكي" إلى جوار جولة الكهرباء وركن الجامعة القديمة ولم تكن قد تدخلت بعد - لا كما صورها إعلام صالح والمتوكل- ، حيث قام المتظاهرون الثوار بأداء صلاتي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، وسط هدوء حذر لدقائق، حتى بدد صمت تلك اللحظات قصف عنيف وانفجارات مدوية لقذائف ال"آر بي جي"، وصواريخ "لو" المحمولة على الكتف من قبل قوات صالح من جولة "كنتاكي" ومن معسكر اللواء الثاني حرس جمهوري على المتظاهرين، وتمزقت جثث من سقط منهم أشلاءً، وسط ظلام دامس وتواصل الانفجارات على المتظاهرين. كانت التعبئة المعنوية من قبل عربة الصوتيات الموجهة للمظاهرة على أشدها، وكان القائم بتلك التعبئة الدكتور أمين اسكندر خطيب وإمام جامع ذي النورين، وكان يقول للمتظاهرين: "تقدموا ياشباب، إما النصر وإما الشهادة..إني لأشتم رائحة الشهادة والموت"، ولما كانت تصل القذائف المدوية كان يقول: "هذه قنابل صوتية يريدون أن يرهبوكم بها ياشباب، لا تخافوا، لا تتراجعوا"، والحقيقة كانت قذائف حية من صواريخ "لو" ومن قذائف "آ ربي جي"، كانت تمزق الشباب أشلاءً. سقط الشاب لؤي...شهيداً بإحدى تلك القذائف ومزقت رأسه ووجهه ولم يتم التعرف عليه إلا من خلال بطاقته الشخصية كانت في جيبه، وأبكى منظره ذلك كل من شاهده. كما وصلت جثة شهيد مقصومة إلى نصفين. في تلك اللحظات كان الشباب يسطرون أروع البطولات بصمودهم الأسطوري مصرين على "تحرير جولة كنتاكي" ومد الخيام إليها ولم يخيفهم تساقط الشهداء إلى جوارهم.. تأخذك الحماسة وأنت بجوار أولئك الشباب فتصرخ "كيف لو كان معهم سلاح؟!" فيشمخ رأسك في تلك اللحظة أنك يمني.
رحمة الظلام لا لعنه: كان الظلام دامساً، فقد كان من حكمة الله في تلك الليلة أن الكهرباء مقطوعة تماماً في تلك المنطقة ولا يوجد أدنى شرر من الضوء ولا حتى ضوء شمعة، ولأول مرة شعرنا ليلتها أن انطفاء الكهرباء أحياناً يكون نعمة. حيث أن تلك القذائف كانت تصل تمزق أجساد الشباب ولا أحد من المتظاهرين يرى أثر فعل تلك القذائف في من تصيبه، ولو رأى المتظاهرون تلك الأجساد الممزقة لما واصل المتظاهرون مظاهرتهم، فقد كان الدكتور أمين اسكندر يطمئن المتظاهرين أن أصوات تلك الانفجارات القوية هي قنابل صوتية لإخافة المتظاهرين فقط. وكنا نحن المتواجدون في نفس ذلك المكان لا نرى تلك الجثث ولم نرها إلا على شاشة التلفاز التي عرضتها وإلا حينما عدنا إلى المستشفى الميداني والمكتب الإعلامي للثورة. ووسط ذلك الظلام الدامس عززت قوات صالح أفرادها وسلاحها من قوات مكافحة الإرهاب، ونشرت القناصة في العمارات السكنية المجاورة للكهرباء والقاع والزبيري وهائل والدائري حتى في وسط الساحة، وكان ضرر القناصة في اليوم التالي أشد من القذائف تلك الليلة. تواصل ارتفاع عدد الشهداء إلى 29 شهيداً وحوالي ألف جريح مابين جرحى بالرصاص الحي وشظايا قذائف أسلحة ثقيلة واختناق بالغاز السام، حتى وقت متأخر من الليل، منهم 6 من جنود الفرقة الأولى مدرع الحامية للساحة. وقد روى أطباء بشهادات تفيد أن جثثاً ومصابين وصلوا إلى المستشفى الجمهوري وتم تغييبهم، مما يعني زيادة عدد الشهداء والمصابين ولم يدخلوا ضمن الإحصائيات الرسمية للثورة. كما تم اختطاف العديد من المتظاهرين من باب القاع، وتم محاصرة بعض لجان النظام في أزقة الكهرباء وما جاورها لأنهم يقومون بحماية وتأمين وتنظيم الشوارع التي يدخل فيها المتظاهرون، وكانت لجان النظام أكثر من يدفع الثمن في المظاهرات والمجازر، وكان كثير من الشهداء والجرحى والمختطفون في هذا اليوم هم من لجان النظام.
مجزرة بشعة بكل المقاييس: وقامت قوات صالح بارتكاب مجازر في هذا اليوم يندى لها جبين الأمة، فليتخيل المتخيل أن شباباً عزلاً من السلاح يصرخون "سلمية سلمية" وتواجههم هذه القوات بسلاح "آ ربي جي" وصواريخ "لو" ورشاشات المدرعات "23ملم نوع فولكا"، هل هذا يقبله عقل أو منطق؟! نعم نقول بملء الفم للتاريخ هذا حصل من قوات نظام صالح، رأينا ذلك بأم أعيننا ولم يروها أحد لنا. وجرّت قوات صالح بذلك القصف قوات الفرقة إلى التدخل، وقاموا بمطاردة قوات صالح ومن خلفهم المتظاهرون حتى جولة شارع صخر جنوباً، والقوات المرابطة جوار المستشفى الجمهوري حتى باب البلقة، ودارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، واستشهد أحد الأطباء جوار مجمع السعيد في الزبيري من قوات صالح التي اتخذت من المستشفى الجمهوري ثكنة عسكرية لقصف جنوب الساحة عمارات الجامعة القديمة والمباني السكنية بجوارها. وتقدم المتظاهرون إلى جولة "كنتاكي" بعد مطاردة بعض قوات الفرقة قوات صالح إلى الدائري، واستولت قوات الفرقة على معسكر اللواء الثاني حرس جمهوري استيلاءً مؤقتاً وأعادته لقيادة المعسكر بعدما تعهدت تلك القيادة بحيادية اللواء، كما استولى شباب الثورة وجنود من الفرقة على مدرعتين حديثتين للحرس الجمهوري من نفس الجولة إحداها تلافتها قوات الحرس وقامت بقصفها عن بعد وأحرقتها. ونصب الثوار خيمهم في جولة "كنتاكي" وأطلقوا عليها اسماً جديداً هو "جولة النصر". كما أنه، والشهادة لله، لقد رأينا ملحمة بطولية لشباب الثورة في تلك الليلة رغم أنهم عزلاً من السلاح كيف صمدوا أمام آلة القتل تلك، ولم يصمدوا فحسب، بل واصلوا تقدمهم وملاحقتهم لتلك القوات خلف قوات الفرقة حتى أرادوا الزحف في تلك الليلة إلى السبعين، وبعضهم أراد أن ينصب خياماً بعد جولة "كنتاكي" (النصر) منذ ذلك اليوم، فكيف لو كانوا مسلحين؟!. بل إن الشباب الثوار أحياناً كانوا يتقدمون قوات الفرقة ويقومون بحمل الأكياس الترابية أمامهم ويقومون بعمل متاريس لقوات الفرقة لاستخدامها في مواجهة قوات الحرس الجمهوري، وسط التهليل والتكبير.
ضغوط دولية وخذلان عربي: مع تلك الاعتداءات الغاشمة على شباب الثورة، كانت القيادة السياسية والعسكرية للثورة تتعرض لضغوطات جمة من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي بعدم الرد على قوات صالح، وحاولت تلك الجهات الضغط على طرف واحد هو طرف الثورة المعتدى عليه ولم تضغط على الطرف المعتدي. حيث تحرك السفير الأمريكي في تلك الليلة بقوة والتقى الأستاذ محمد اليدومي رئيس الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح، وهدده بأنه سيقوم بعقد مؤتمر صحفي في تلك اللحظات يعلن فيه أن اليمن دخلت الحرب الأهلية، وأن مسيرة اليوم لم تكن سلمية، وسيقفون ضد الثورة. كما ذهب إلى اللواء علي محسن قائد جيش الثورة والتقاه في مقر قيادة جيش الثورة في الفرقة الأولى مدرع، في اليوم التالي الإثنين، وقال له بأنه سيعلن أن الثورة اليمنية قد تم عسكرتها من قبل الثوار، وأن اليمن دخلت حرباً أهلية. ولم يكتف السفير الأمريكي بتلك الضغوط على جانب واحد وحسب بل اتهم الثوار بأنهم "حاولوا اجتياز منطقة الآخرين ووصولهم إلى أماكن محظورة" ودشن فصلاً مناطقياً بين الثوار ونظام صالح وحدد له حدوداً، وتهكمت عليه وسائل الإعلام حينها بأنه "سفير أمريكا في الصباح وسكرتير علي صالح في المساء". في تلك اللحظات أمر اللواء علي محسن قواته بالتراجع إلى أماكنها وعدم التقدم أكثر، وصارت تلك القوات والثوار يتلقون الضربات من طرف واحد ولم يقوموا بالرد. كان سفراء المجتمع الدولي من أوروبا وأمريكا وروسيا والعربية السعودية يضغطون على طرف الثورة وحملوا شباب الثورة المسؤولية عن "استفزاز النظام بخروجهم في مسيرة خارج المخيم إلى المنطقة المحظورة وبمسيرات مسلحة" التي هي تحت سيطرة النظام، ولم ينبس أحد من السفراء ببنت شفه لإدانة مجازر نظام صالح بحق المتظاهرين السلميين، كما قال الدكتور ياسين سعيد نعمان، وبالتالي ضغطوا بكل قوة على الطرف السياسي في الثورة وهو قيادة اللقاء المشترك للرضوخ للمبادرة الخليجية وعمل تسوية سياسية مع نظام صالح، بدل أن يكون اجتثاثاً ثورياً له. وكان ذلك الأمر فضيحة للمجتمع الغربي ولديمقراطيتهم، فهل من الديمقراطية والعمل الحر سجن الشعب في مخيمات محدودة الحركة يقرر من يحبسهم أين يذهبوا ومتى يخرجوا في مظاهرات للتعبير عن مشاكله؟! كان على قيادة العمل السياسي في الثورة من قيادة اللقاء المشترك أن تقوم بتغيير الصورة التي تشكلت عند المجتمع الدولي بشأن الثورة وبالتالي القيام بتفكيك عقبات العمل السياسي التي حاول صالح ونظامه ترسيخها لدى المجتمع الدولي وفضح ادعاءاته في نقل السلطة، بتسويق ودعم سعودي. وكانت تصدر تصريحات إيجابية لصالح الثورة من قبل شخصيات ومسؤولين في المجتمع الدولي ومن بعض سفراء المجتمع الدولي في اليمن، بينما كانت المواقف الحقيقية صادمة للثوار، وما كان ينشر عبر وسائل الإعلام لم يكن سوى مهدئات للغضب الشعبي، بينما كان يدور خلف الكواليس العمل على إفشال الثورة.