يحتاج وطننا العربي والإسلامي إلى البناء والنماء والمحبة والإخاء, لينتقل من حالة الوهن والضعف, ويخرج من دائرة الصراع والتخلف, ولن يتم له ذلك حتى يتعاون أبناؤه وتتكامل طاقات قواه وشرائحه لتصب في حقول العمل والإنتاج, ولابد لتحقيق هذه الغاية أن تبتعد النخب السياسية والفكرية عن الجدل والمراء, واجترار عداوات الماضي, وتذكر المآسي والتنقيب عن الصراعات والخلافات التي لم تجن الأمة منها إلا التفرق والفشل وذهاب الريح والقوة! انقضت قرون ونحن مشغولون في حروب بينية وصراعات سياسية وجدل فكري عقيم, غلبت فيه الأنانية وحب الذات وغابت الموضوعية والحسّ الجمعي, وحضر حب الغلبة والاستعلاء, وبرز نكران حق الغير وعدم الاقتناع بالتعايش والقبول بالآخر, قُطعت حبال المودة وعاشت أمتنا الواحدة في جزر منفصلة, استغرق ذلك جهود الأجيال المتعاقبة وأموالها وأوقاتها فلم تقم لنا قائمة وقعدنا في مؤخرة العالم نبكي حاضرنا ونستجر آلامنا ونندب حظنا العاثر الذي صنعته أيادينا.. نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ** ولو نطق الزمان لنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا!! جاء الربيع العربي لتستيقظ الأمة على واقع حزين أدركنا فيه جميعاً أنه لا يجوز لنا أن نظل غارقين في ظلام التخلف والخلاف, والفرقة والشقاق, وأنه قد آن الأوان لنستعيد لُحمتَنا وأخوتنا وحريتنا وكرامتنا, ولن يتم ذلك إلا بالتعاون والتعاضد والتسامح, والبحث عن وسائل سليمة وسلمية لحل الخلافات, والاستعداد للقبول بالرأي المخالف واحترام الخصوصية لكل طرف دون انتقاص أو تسفيه أو احتقار, هكذا تنتظم حبات العقد وتكتمل, وتبنى الحياة وتزدهر, وبغير ذلك سنستمر في الدوامة التي أودت بنا إلى قعر سحيق, وجعلتنا في مفازة غبراء لا شجر فيها ولا ماء!! أليس من العجَب ومن العيب أن نسمع اليوم من يستجر خلافات الأمس بين الإسلاميين والقوميين واليساريين ويحاول أن ينكأ الجراح التي رمّمتها يقظة اليوم, لماذا نعيد صراع خمسينيات وستينيات القرن الماضي, وهل صنع الغالب من ذلك مجداً أوعزّاً لوطنه وأمته, وهل انتهى وجود المظلوم ومُحيَ من وطنه, ألم يستفد أعداؤنا من تلك العداوات وحققوا مصالحهم وانتصروا علينا بدون حرب ولا قتال!؟ ما يحدث في مصر اليوم حراك فرضته الثورة والتغيير, تنفّس الناس الصعداء ورفعوا أصواتهم دون خوف, لكن بعض التصرفات المتشنّجة تفضي إلى القول بأن الشعوب لا تستقر إلا بالاستبداد والعصا الغليظة, وهذا غير صحيح فالحرية لا تعني الفوضى والتعبير عن الرأي يجب أن لا يتعدى حقوق الآخرين, ويجب إرساء أعراف للتداول السلمي للسلطة, وقواعد لتنظيم الخلاف والتسليم برأي الشعب وإن جاء مخالفاً لبعض التوجهات, وإذا كان 36% من المشاركين في الاستفتاء على الدستور المصري قد قالوا (لا) فأصواتهم لها احترامها وقدرها واعتبارها, ولكن ليس من حقهم أن ينكروا حقوق 64% قالوا (نعم) ويفرضوا عليهم إرادتهم, وتلك هي مقتضيات الديمقراطية, وهل كان الأفضل أن تظل كل السلطات بيد رئيس الجمهورية بما في ذلك سلطة التشريع!؟ إن مصر ستظل الرائدة وما يحدث فيها ينعكس على الوطن العربي, ونحن نتمنى أن تخرج من الوضع الاستثنائي وتبنى فيها كل مؤسسات الدولة, ومن يصل إلى السلطة اليوم لن يبقى مخلّدا فيها, والمعارضون سينتقلون غداً إلى الحكم, وبالتنافس الشريف وتقديم البرامج تنهض الأوطان, وليس منطقياً أن يُقصى أحد لأنه إسلامي أو قومي أو أممي .. وإن كان أهل مكة أدرى بشعابها فقد كنت أتمنى أن لا يُقنن العزل السياسي إلا لرموز الفساد والوالغين في الدماء, ويترك الأمر للشعب ليقول كلمته ليقصي أو يعطي الثقة لمن يريد, فيصدر حكمه ويتحمل تبعات ما يختار ... مؤسف أن تنبري اليوم بعض الأقلام في وطننا العربي لتشن الغارة على الإسلاميين عموماً والإخوان المسلمين خصوصاً؛ لأن الشعوب أعادت لهم الاعتبار بعد عقود من الظلم والقهر والطغيان, محاولة استدعاء سنوات الصراع وجرائم الاعتقالات والمذابح والتعذيب والتشريد وكأنها فترات المجد والسؤدد لأمتنا, إنها دعوات للتحريض واستمرار الصراع والدمار والخراب, أليس الأولى أن ننظر للمستقبل بتفاؤل ونمضي لبناء الأوطان بعيداً عن عداوات الماضي ومآسي الصراعات؟ لماذا لا نبحث عن عوامل التقارب ودواعي التوافق لتتآزر الجهود من أجل حياة كريمة لنا وأجيالنا القادمة؟ ما أشد حاجتنا اليوم لإشاعة ثقافة التعايش والقبول بالآخر دون إقصاء أو تمييز, وتستطيع النُّخب السياسية والفكرية أن تختصر المسافات حين تتخلص من اسار الصراعات والعداوات الماضية.. " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله آياته لعلكم تهتدون". [email protected]