يتساءل بعض المشتغلين بالأدب: هل يلبي الأدب الإسلامي في تأصيله المعاصر ما يعتمل في نفوس أبناء الجيل المسلم من آمال؟ وهل له دوره الحضاري المستقل في بناء البشر أو أنه فورة حماس عارضة؟ تتفاوت نظرات المثقفين إلى الأدب، فهناك من يرى الأدب عبثاً وألهية، وهناك من يجد فيه مسلاة أو أداة للترويح، ويجد في العلوم وحدها البغية والثقافة. أما النظرة المتوازنة فتجد أن العلم والأدب يتكاملان في بناء النفس الإنسانية. فالعلم وعاؤه العقل والأدب وعاؤه الوجدان، ولكل منهما طبيعته ومنهجه في كلام طويل، وإن كان هناك صفحات في أدبنا القديم اقتصرت على الترويح والتسلية وأخرى لتمضية الوقت، فليس سائر أدبنا كذلك، فهناك صفحات كثيرة مفعمة بالجد وتأدية الرسالة وتغذية المشاعر. وإن لم يستبن لبعض المثقفين حقيقة أدبنا القديم ورسالته، فلا يمكن لمثقف أن ينكر سلطان الأدب المعاصر على النفوس في فنونه الأدبية المشوّقة، وأضرب مثلاً لمكانة الأدب وأثره كلام الروائي: «ربما يتهمني البعض أنني أبالغ في تأثير الحرفة التي أمارسها، حين أقرر أن غالبية الشباب والشابات في الطبقتين العليا والوسطى يحصلون على معظم تعليمهم الأخلاقي من الروايات التي يقرؤونها. ستذكر الأمهات تلقينهن الرقيق لأطفالهن، وسيذكر الآباء المثُل الصالحة التي يضربونها بأشخاصهم، وسيتحدث المدرسون عن روعة دروسهم الأخلاقية.. ما أسعد الشعب الذي فيه هؤلاء الأمهات والآباء والمدرسون! ولكن الروائي يتسلل في خفية إلى مكان أعمق مما يبلغه أبٌ أو مدرس، ويكاد يكون أعمق مما تبلغه أم، فإنه هو القائد الذي اختاره الشباب لأنفسهم، والمعلم الذي تتلمذوا له عن طواعية». ولعله يتضح من خلال كلام الروائي أن الأدب المعاصر والرواية بخاصة لم يعد مسلاة أو ملهاة، وإنما هو عامل خطير في تكوين العالم الداخلي للإنسان، يلوّن وجدانه، ويصوغ اهتماماته، ويرسم له الطريق الذي يريده له الأديب، ومن ينكر أثر الأدب بعد هذا يكن صنيعه كالنعامة التي تخفي رأسها من الخطر كيلا تراه. ولكن لا بدَّ لنا من طرح التساؤل الآتي بعد هذا: ما الأدب الذي تطمئن له نفس الإنسان المسلم بعيداً عن المنزلقات التغريبية التي تخرِّب النفوس والعقول؟ لقد طمس التغريب كثيراً من إشراقات النور في النفوس، حين قدم لنا الأدب من خلال فهم الأوربيين له، بما يعكس تصورات الأوربيين وأفكارهم وأخلاقياتهم، الأمر الذي شتت الأفكار وبلبل النوازع، ومزّق نفس الإنسان المسلم المعاصر بين حياة إسلامية ينشدها في عقيدته وتصوره وسلوكه، وبين أدب يمارس في أكثره بعيداً عن الروح الإسلامية. هذا التناقض بين الأدب والحياة، ولّد تطلعاً في نفس الإنسان المسلم المعاصر إلى أدب يمثل عقيدة الأمة المسلمة وشخصيتها الحضارية المتميزة، فكان الابتعاث المعاصر للأدب الإسلامي الذي وجد فيه جيل الصحوة الإسلامية انعكاساً لذات الإنسان المسلم ووجدانه المؤمن. إن الأدب الإسلامي يمثل في عصرنا الحاضر ضرورة حضارية للإنسان المسلم والحيثيات في ذلك كثيرة منها: أولاً: ما يمنحه الاعتزاز بالأدب الإسلامي من طاقات وفعاليات في صفوف الشباب المسلم في العالم، وهذا ما لمست أثره في التجاوب العميق مع حركة الأدب الإسلامي، إذ لم يمض على طرح أسس التأصيل المعاصر عشر سنين حتى ألفينا إقبالاً منقطع النظير على مؤلفات الأدب الإسلامي من المشرق الإسلامي إلى مغربه، ونهوضاً نشِطاً لتأليف الرسائل الجامعية في الأدب الإسلامي في حركة نهضة أدبية مجددة للنفوس والمشاعر، لو واتاها الإعلام، وحضانة المؤسسات القوية لكان لها شأن أكبر.وما كان ذلك ليكون لو ظلت الإسلامية في الأدب على استحياء لا مسوغ له. ثانياً:حصانة الشباب المسلم من نزعات التغريب الأوربي وانحرافاته ومباذله، وما يتبع ذلك من صحف ومجلات العري الجنسي، وفلسفات الشتات والضياع التي تجتاله عن شخصيته الحضارية، فلقد وجد الشباب المسلم المعاصر في الأدب الإسلامي مهمته ودوره في الحياة بما يمنحه ذاتاً أصيله. عصية على التغريب والفساد، يرجو بعمله رضاء الله والجنة. وما كان للمترددين أن يستطيعوا صرف أنظار الشباب المتوقدة الحيوية عن الصور العارية والجنس في الصحف والمجلات بكلمات مجردة. بينما حقق الأدب الإسلامي ذلك حين ابتعث في الشاب المسلم شخصيته مستقلة، لها قيمها وهدفها الأسمى، وقدم له التعبير الوجداني عن حياته وقيمه، ودوره في معلَم فني حضاري راق هو الأدب الإسلامي. ثالثاً: بعَث الأدب الإسلامي بوضوحه وإشراقه، وسمو آفاقه، تياراً أصيلاً في عدد من الصحف والمجلات التي أخذت تتلقف نتاج الأدب الإسلامي من شعر وقصة ونقد، بما أسهم في كثافة القراء على طريق الاتجاه الحضاري الأصيل للأمة، وتكوين رديف يومي لجيل الصحوة الإسلامية. رابعاً: أحلّ الأدب الإسلامي الأصول الإسلامية الحضارية في النسيج الأدبي بما يمنح القارئ والمتأدب ملكة ذوقية يميز بها الأصيل من الدخيل، ويكشف الأدب المستغرب ومزالقه ومكر رجاله. خامساً: أرسى الأدب الإسلامي سمات التميز للأمة في معركتها الحضارية مع الخصوم، من خلال أدب ينطق بشخصيتها الأصيلة، ويعرب عن مفاهيمها وتطلعاتها بما يرسخ وجودها المستقل على كافة الأصعدة، ويمتن بنيانها الحضاري ويُعدُّها لميادين الحاضر والمستقبل. سادساً: إن الرؤيا الجمالية في الأدب الإسلامي وهي رؤيا شاملة لكافة أبعاد الحياة هي رؤيا أصيلة متجددة، تملأ الفراغ النفسي والوجداني الذي تعيشه الجماهير المسلمة اليوم والتي تلتمس شخصيتها الحضارية في التعبير الفني. فلا تعثر عليها في الممارسات الأدبية الوافدة التي خرجت من عالم الإيمان إلى عالم الضياع والشتات. لذا فإن الدور الفني للأدب الإسلامي يتجلى في تغطية الفراغ الذي أحدثته النزعات الأدبية المتغربة بالتعبير عن طاقات التحول في الأوساط المسلمة من ضعف الشخصية أو انعدامها إلى الأصالة والإبداع، ومن فساد القيم وفراغها إلى نقاء القيم وتجددها وشحنها بالفعالية والطاقة وذلك من خلال رؤيا جمالية متميزة مشرقة العوالم. هذه بعض الحيثيات التي يمثل بها الأدب الإسلامي ضرورة حضارية للإنسان المسلم، ولعل عاقلاً لا يفوته إلى أيّ مدى يمكن أن يُعَدّ الأدبُ الإسلامي بالمعطيات التي عرضت لها ضرورةً حضارية لتأصيل الحياة الإسلامية الوجدانية والفنية،وملء حياة الشاب المسلم بالدور الأصيل. فما الدور الحضاري للأدب الإسلامي في شعوب العالم الإسلامي؟ إن رسالة الأدب الإسلامي الحضارية لا تنحصر في قطر من أقطار الإسلام، وإنما تمضي ببعدها العالمي تُهيب بالمسلم في كل مكان أن ينهض للقيام بدوره يؤدي رسالته التي كلفه الله بها، فهي رسالة الإسلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله رحمة للعالمين. ومن هنا كانت رسالة الأدب الإسلامي الحضارية « مجالها الأرض كل الأرض، وموضوعها الإنسان» أينما كان، ينهض بها الإنسان المسلم فيُخرج بها الناسَ من الظلمات إلى النور داعياً، فاتحاً، مجاهداً، وفي مخيلته أطياف أجداده الألى فتحوا الدنيا في نصف قرن ونشروا فيها رسالة الإسلام وملؤوها حضارة ونوراً. وقد يثير البعض الشبهات ولاسيما بعد أن تجزأ المسلمون بفعل الاستعمار إلى وحدات إقليمية وانفصل كل قطر: رايته ودستوره ومنهجه: كيف يستطيع الأدب الإسلامي أن يعبر عن رسالته عبر هذه الكيانات المنفصلة الناطقة بلغات مختلفة؟ وهل تستطيع اللغة العربية أن تقوم بدور التوصيل لهذه الشعوب كافة؟ والجواب: إنها مهمة الأدب الإسلامي: إحلال الوحدة مكان الفرقة، والتلاحم مكان الشتات.. إن تقديم الأدب الإسلامي لألف وخمسمائة مليون من المسلمين في بقاع العالم يُعَدّ مقوّم وحدة وعامل التقاء، سيجد المسلمون من غير العرب أنفسهم في الأدب الإسلامي، ويجدون تطلعاتهم ورسالتهم، ومن هذا التفاعل تتجدد الرابطة الإسلامية في النفوس وأما العرب فهم مادة الإسلام وناصروه وناشروه في الأرض، بلغتهم نزل القرآن، وصنّف التراث، وتعربت الأمم، ودخلت في دين الله أفواجاً. لذا كانت اللغة العربية خير لسان موحّد للشعوب الإسلامية تحت راية حضارية واحدة، وكان الأدب الإسلامي ذا دور ظهير في توحيد الشعوب الإسلامية ودعم تلاحمها، وتقريبها من لغة القرآن، فالأدب الإسلامي يبدو أرقى منزلة وتعبيراً في اللغة التي نزل بها القرآن، إنه أدب ناطق بالعربية اليوم في ديار العرب، وأدب ناطق بالعربية إن شاء الله في ديار الإسلام كلها غداً، ولكن عن طريق التآخي والمحبة في الله، طريق الإسلام، لا طريق الاستعلاء القومي الفارغ الذي يفرق بين الشعوب الإسلامية ويثير النعرات. هذا وإن للأدب الإسلامي دوراً حضارياً يتمثل في الحفاظ على تراثنا العربي وأدبنا العربي الذي تتعهده المذاهب المتغربة تروم تمويه شخصيته وطمس طبيعته، فهي تحت ستار التجديد تبغي القضاء على تراثنا الفكري وتراثنا الشعري وكل ما يمت إلى حضارتنا بصلة. لذا كانت الدعوة الجديدة إلى تأصيل الأدب الإسلامي، وعلى أرقى مستوى فني مفيدةً من آفاق الإسلام الكونية، ومسعفة على توليد عوالم فنية في ظلال الأدب الإسلامي تضمن فيما تضمنه سلامة تراثنا الفكري والشعري على أساس من التوليد والإبداع وإبراز الشخصية الحضارية والدور الحضاري للإنسان المسلم. إن آمالاًَ رصيدها ما ذكرت سترعاها عناية الله، وسيصحب العاملين على تحقيقها بعون الله النجاحُ والظفر. وبقدر الإخلاص يكون الإنجاز، فما كان لله فهو المتصل وما كان لغيره فهو المنفصل.