ما يجري في مصر مخاض طبيعي للانتقال من ضيق الاستبداد إلى آفاق الحرية، ومن الحكم الجبري إلى المشاركة الشعبية، والذين رضعوا الذل عقوداً يحتاجون سنوات ليتخلصوا من أدواء عبودية البشر، وحنين بعضهم للديكتاتورية أدعىٰ للتلطف بهم كي يستسيغوا عبير الحرية، ويتعودوا على سلوك التداول السلمي للسلطة بدون انقلابات ولا عنف! نجاح المصريين في الوقوف على أقدامهم، وترسيخ الديموقراطية في مصر وتحولها إلى دولة مؤسسات وانتقالها من الاستجداء إلى الاستغناء، سيجعلها بلداً عملاقاً، وهذا ما تخشاه الأنظمة الاستبدادية، وتعمل له إسرائيل ألف حساب، وستبذل مع حلفائها ورعاتها قصارى جهودهم حتى لا تستقر مصر، ولاشك أن الكيان الصهيوني المستفيد الأول من الفوضى وعدم الاستقرار في مصر الكنانة؛ فقد ظهر على لسان ساستهم ومفكريهم الارتياح والابتهاج لاحتدام الخلافات بين النخب السياسية المصرية وتهديد الأمن والسلم الاجتماعي.. جميع المتضررين من ثورة يناير 2011م يقومون بمحاولات مستميتة للحيلولة دون قيام دولة مصرية قوية مستقرة، وفي هذا السياق يأتي إلغاء البرلمان، ومقاومة إقرار الدستور، والسعي الدؤوب لإسقاط الرئيس المنتخب، وإبقاء مصر بدون مؤسسات لتصبح نهباً للعبث والفوضىٰ؛ وربما حلم هؤلاء بإعادة النظام السابق الذي قزّم مكانة مصر وحرمها من كفاءة وقدرات خيرة أبنائها الذين سدت في وجوههم أسباب الرزق وأبواب البحث العلمي ولم ينعموا بالأمن والاستقرار فهاجروا إلى مختلف دول العالم!! ومع كل التحديات القائمة فلا داعي للشعور بالخوف والقلق على مصر وشعبها، فدورات الصراع ستفضي في النهاية إلى أن ينتظم المشهد السياسي، وستتموضع القوى السياسية بحسب أحجامها وقدراتها، وستكون مضطرة لاستيعاب شروط اللعبة السياسية والتداول السلمي للسلطة، ولا يمكن العودة إلى الديكتاتورية بعد تجربتها الطويلة المريرة والمؤلمة، ولابد أن تبتعد الأحزاب والجماعات عن العنف والعبث الذي يلجأ إليه الضعفاء حين يغادرون الموضوعية ويسعون إلى العدمية !! علينا أن نتذكر أن الأوضاع لم تستقر في أوروبا ولم تترسخ الديموقراطية إلا بعد مراحل من الصراع المرير بين القوى التقليدية ودعاة التغيير والتنوير، وذهب نتيجة ذلك ضحايا كُثر من العلماء والمفكرين ومن صفوة المجتمع وعامتهم، ولم تحط الثورة الفرنسية رحالها بأمان إلا بعد حوالي مائة وخمسين عاماً من اندلاعها، والواجب أن يبدأ المصريون والعرب من حيث انتهى غيرهم، ويتجنبوا أخطاء من سبقهم من الشعوب، فيختصروا الجهد والزمن، ولتكن الشراكة والاعتراف بالآخر والتعايش وعدم الإقصاء والتنافس الشريف هو عنوان المرحلة القادمة التي يستظل تحتها الجميع فيأخذون حقوقهم ويحققون ما يريدون بأقل كُلْفَة مع المحافظة على أُخوّتهم وبلدهم... عندما توجد مؤسسات دستورية منتخبة ومحترمة من الجميع، فلا تحتاج أي قوى سياسية لحشد المليونيات والخروج إلى الشوارع، لأن النظام السياسي الرشيد سيجعل التجديد والتغيير سهلاً وممكناً وفي متناول الجميع. واضح أن ما يحدث الآن في مصر يختلف عما حدث في 2011م ، فليس هناك إجراءات قمعية، ولا توجد استجابة لحالات العنف التي يقوم بها المتهورون، وحوادث الاعتداء وحرق المقرات يتم التعامل معها باتزان كبير، وهو ما يجب أن يستوعبه العقلاء، لأن المتطرفين موجودون في كل جهة، وهم يستمدون قناعاتهم من عنف الطرف المقابل، وإن عدم القبول بالديموقراطية يضيف اليوم أدلة جديدة للداعين للعنف على أن المسار الديموقراطي لا يصلح لعالمنا العربي والإسلامي، وأن البديل الصحيح اللجوء للقوة لفرض الرأي، وهي الرسالة المجانية الواضحة التي يقدمها كل المتآمرين على أمن واستقرار مصر كنانة الله في أرضه!! من ثمرات الربيع العربي تحرر الإنسان العربي من الخوف، بمن فيهم أولئك الذين تمسكوا بالديكتاتورية والتوريث وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وبعض المتهمين بمذبحة جمعة الكرامة في صنعاء،؛ انطلقوا إلى مصر آمنين، سكنوا أرقى الفنادق، ونزلوا إلى ميدان التحرير يهتفون بسقوط الرئيس مرسي، لا يخشون ردود فعل الإخوان ولا الأمن المركزي ولا الأمن القومي ولا حتى قوات الجيش، إنهم يستمتعون بأجواء الحرية التي حرمتهم ثورات الربيع العربي من مصادرتها، فجاءوا يبكون أطلال الاستبداد ويحلمون بعودة عقارب الساعة للوراء، ولم يلتزموا باللياقة وأدب الضيافة في عدم التدخل بشؤون الشعوب الأخرىٰ !! لا خوف على مصر، سواء بقي الرئيس مرسي أو جاء غيره، فعجلة التغيير قد دارت ولن تتوقف حتى تصل إلى بر الأمان، لكني أدعو الله أن تمضي بأقل الخسائر، وأتمنىٰ على جميع القوىٰ المصرية المتصارعة أن لا تقطع حبال التواصل بينها، وستظل المشتركات التي تجمعها أكثر مما يفرقها، وأن تحافظ على مقدرات ومرافق ومصالح الشعب المصري، وستبقىٰ مصر أم الدنيا آمنة مستقرة بإذن الله تقول للعالم : " ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِيْنَ ". [email protected]