غالباً ما ينشغل القوم بالمذبحة دون التنبّه إلى السبل المٌعتمة المفضية إليها، لكنّ إجهاض الفاجعة قد يتيسر في طور الحمل الأول بها، قبل أن يفوت الأوان من بعد، وهو ما تفصح عنه التجربة المصرية أيضا. لوم الضحية وفعل الافتراس بدا مفجعاً في حضرة مجازر مصر أن ينهمك متحدّثون في تفسير السفك المذهل للدماء البريئة، بتشديد النكير على "أداء الإخوان" وتحميل المعتصمين المسؤولية عن المقتلة العظيمة. هو مذهب "لوْم الضحية" الذي ظلّ نهجاً مفضّلا عبر التاريخ لتبرير الفظائع، بتحميل مَن تستهدفهم الانتهاكات المسؤولية عن المظالم التي تسومهم سوء العذاب.
والواقع أنّ الخبرات السيئة تتلاقح في ملابسات التعامل الدموي الجاري مع المعتصمين السلميين في مصر. واضحٌ أنّ السلطات استلهمت بعض الدروس الأمنية من عجز نظام مبارك عن تقويض ثورة يناير/كانون الثاني، وهي تستنسخ فوق ذلك تجارب كارثيّة تمّ تطبيقها في الإقليم الملتهب.
فلعل بعض ما يجري في أرض الكنانة يستعيد تجربة السلطات اليمنية مع "ساحات التغيير"، التي ظلّت مفتوحة على هجمات دامية وأعمال قنص، فجعت آلاف البيوت اليمنية بصفوة من أبنائها وبناتها على مدى شهور.
أمّا المشاهد رديئة الإخراج التي روّجتها السلطات المصرية عن مسلّحين يُطلقون النار على الأمن، وصناديق الذخائر في "رابعة العدوية"، وجثث "مَن تمّ تعذيبهم حتى الموت" في الميدان، فهي تتقمّص أولى المشاهد الدعائية التي روّجها النظام السوري في تبرير حملته على درعا، مهد الثورة السورية.
هي التجربة السورية ذاتها التي تنتصب مثالاً على ارتفاع منسوب الوحشية باطراد. ذلك أنّ شعور الأنظمة بالتهديد يجعلها تكشر عن أنيابها وتمارس فعل الافتراس.
وما إن تتلاحق موجات الفتك بالبشر، حتى يتفاقم النهج الوحشي، فيصبح ثقافة عامّة وسلوكاً شائعاً بمفعول التواطؤ الجماعي والانسياق مع التيّار.
يكتشف القتلة أنّ أشقّ عملية تصفية جسدية هي الأولى، ثمّ يسهل سفك الدماء وإزهاق الأرواح، ويتحوّل الضحايا بمضي الوقت إلى مجرد أعداد، وقد يترك القاتلُ هوايةَ عدِّهم بعد أن يسأمها.
في غضون ذلك يتبارى بعض القتلة في اقتراف الفظائع ويرونها بطولات يحرصون على توثيقها بالصور والمَشاهد لتستقر في عيون المشاهدين وأذهانهم. هكذا تتملّص فئات من المجتمع من إنسانيّتها، فتتحوّل إلى كائنات متوحشة أو آلات قتل منزوعة المشاعر، ستجد من يصفق لها دوماً.
إرهاصات المذبحة على النيل حتى قبل أن يسقط أوائل الضحايا بعد الانقلاب العسكري، كان يمكن استشراف المذبحة الهائلة على النيل منذ وقت مبكر. كان يكفي مثلا تحليل فيض الشتائم والنعوت، التي تم إغداقها على جماهير مصرية اختارت التعبير عن موقفها بشكل سلمي في الميادين رفضا للانقلاب العسكري على الديمقراطية.
كان ينبغي قرع نواقيس الخطر قبل وقت طويل، إذ لا يمكن لنزع الصفة الإنسانية عن فئة مجتمعية ما، أو عن مكون في النسق البشري العام، إلا أن يُغري باقتراف الانتهاكات الجسيمة.
فمن يتم وصفهم بالديدان أو نعتهم بالجراثيم أو تشبيههم بحيوانات الحظيرة، وهو ما تحفل به في الواقع حمى التشنج اللفظي الداعم للانقلاب في مصر، إنما يجري بالتالي استثناؤهم من السياق البشري أو النسق المحلي الجامع، كي لا تسري عليهم تبعا لذلك قواعد السلوك الإنساني أو الوطني المشترك، وهم وفق هذا لا يستحقون أن تشملهم ضوابط تعامل تفرضها أي معايير دينية أو أخلاقية أو حتى مواثيق دولية مغلّظة.
هي ممارسة مألوفة في الشرق والغرب، وقد اقترفتها إدارة بوش مع معتقلي غوانتانامو مثلا، عندما اشتقت سابقة في استثنائهم من التعريفات المعتمدة، وهو ما كان مقدمة لحرمانهم من حقوق الإنسان والمعايير المكفولة لأسرى الحرب أو السجناء السياسيين أو حتى عتاة الجريمة، بل تمّ نفيهم خارج الجغرافيا، في قاعدة مقتطعة من كوبا، كي لا تسري عليهم القوانين الأميركية ذاتها.
وقد كان مفجعا بحق، أن يجرؤ متحدثون في منتديات عامّة مصرية، على وصف شركاء الوطن بمفردات غير إنسانية، من القسط القول إنّ تلك لم تكن شتائم مجرّدة وحسب، بل سيقت تسويغاً لفعل الفتك الآتي بالجماهير.
ألم يكن واضحاً مثلا أن وصف "الجرذان" البائس الذي استدعاه القذافي من قاموسه الغرائبي الخاص به، قد أفصح يومها عن نزعة إبادة تعتمل لدى نظامه؟
يُخطئ من يحسب أن التورط في هذا المسلك الآثم قد اقتصر على مهرّجي المساء في محطات التلفزة المصرية. ذلك أن نخبة ترفع لافتة "العلمانية والليبرالية" وتحتمي بوصف فضفاض مثل "مثقفين وفنانين" قد وَلَغت في خطايا من هذا النوع حتى أذنيها. ولا ريب أن الفضيحة تتعدى مثال الندوة "العلمانية الليبرالية" الشائنة، التي كشف بثّها المباشر خلسة، عن تفاقم نزعة الاستئصال الدموية بحق التيار الإسلامي في ظلال الانقلاب.
كما يمكن فحص بيانات القوى السياسية التي هللت لمذابح الأربعاء الدامي، لاكتشاف ما يبعث على الغثيان بحق، من قبيل القول إن تلك الفواجع "رفعت رأس مصر عالياً". حدث هذا بينما كانت مشاهد الذبح الجماعي تتصدر صحف العالم تباعاً تحت عناوين مثل "يوم العار في مصر" في "الإندبندنت" اللندنية.
ثم إنّ التعبئة المتلفزة تشهد على توجه فاشي يصعب كَنسُه تحت البساط. فقد أفصح متحدثون ومعلقون في الفضاء المصري المفتوح للمزايدات البائسة، عن كراهية موجهة نحو الداخل والخارج، تغترف من تصورات تختزل الوطن وتقزم الهوية، في انغلاق ذميم لا يليق بقامة "أمّ الدنيا".
وبعد التملص من ثورة يناير/كانون الثاني والتهكم على صندوق الانتخابات، أخذ تمجيد العسكرة يضفي هالة القداسة على آلة القتل. إنه الشكل الآخر من "التفويض" الذي استدره أرباب الانقلاب ليذهبوا بعيدا في نهجهم. تهيئة الجمهور لاستمراء القتل في كل الأحوال، تم السعي لتهيئة الجمهور مسبقا لاستيعاب أنباء المجازر والتبلد إزاء مشاهد الأكفان، وهذا أسوأ ما في القصة ربما، لأن استشراء الصمت يغري بالانغماس في حمامات الدم أكثر فأكثر.
فمنذ أن فتحت قوات الانقلاب نيرانها على الجماهير في الميادين، بادرت آلة التضليل إلى تكثيف أحابيلها الرامية لعرقلة انشغال الجمهور ذهنيا وعاطفيا مع ما يجري.
كان ما جرى صبيحة الأربعاء الدامي مؤهلا في الأساس لأن يفجر غضبا جارفا في أرجاء مصر، لكنّ مساعي تكييف الجمهور وتطبيعه مع رواية السلطة، فعلت فعلها في كبح نسبي للعاطفة.
تم ذلك من خلال حجب فرص معايشة الحدث وتجميد الإحساس به، وتمرير أنباء المذابح جرعة جرعة، فضلا عن تأويل ما جرى بتفسيرات تخرج بالواقعة عن سياقها الصحيح.
هكذا أريد للجمهور أن يستوعب ما يجري وكأن الضحايا دخلاء على البلد، أو أن الدماء مسفوحة في رقعة معزولة عن الجغرافيا المصرية، وليس في مدينة نصر الواقعة في العاصمة النابضة بالحياة.
إن المشاعر التي تتبلد إزاء سحق مئات المحتشدين في الميادين دفعة واحدة، إنما تعلن ميلاد جمهورية القتل، التي كتب دستورَها التعسفي عسكرُ الانقلاب، وباركتها نخبة تتمسّح بالليبرالية وتلعن الديمقراطية وتُمعِن في خذلان الضحايا.
ضحايا أم تسلسل عدديّ؟ ما يُراهِن عليه هذا النهج الذي يستبيح ضحاياه، هو إعادة تعريف الضحية ذاتها بعيدا عن الوصف الإنساني والانتماء المصري.
ففي ثورة يناير عُرفت الأسماء والصور تقريبا بدءا من خالد سعيد، كما كانت مطالب الثورة واضحة لعموم الجمهور إلى حدّ كبير. أما في الثورة الراهنة التي تتنكر لها معظم النخبة البارزة، فيتم تحويل الضحايا إلى تسلسل عددي لا يستحث التعاطف، كما يتم حشرهم في زاوية التصنيف السياسي مع الإمعان في تشويه مطالبهم، وهو ما يسهل مهمة الفتك بهم والإساءة إليهم وهم في القبور.
ومع تعاظم الحصيلة المأساوية لمن أُهرقت دماؤهم المصرية في سويْعات قليلة، سيغدو الوعي الجمعي للجمهور قابلا للتعايش مع المذابح التالية، طالما أنها تنتزع كل يوم عشرات القلوب النابضة وحسب.
تجدر الخشية حقا من تحول القتل الجماعي بدوافع مناهضة الموقف والرأي السياسي، إلى حدث مألوف على ضفاف النيل، في زمن الانقلابات العسكرية والأنظمة السلطوية واستسهال الذبح بالجملة على مدى الشهرين الماضيين.
وهناك ما يدعو للتأمل في الحالة السورية على الأخص، فقد باتت مائة ضحية في يوم واحد تفقد امتياز الخبر الأول، فالأهمية التي يمنحها الحدث الاستثنائي تتضاءل مع تكراره واعتياده، وهي عِظة محمولة من التجربة العراقية خلال العشرية الأخيرة الحافلة بتفجيرات الصباح.
تحدي الانتماء والأنسنة هكذا تواجه الثورة المصرية الراهنة تحدي تأكيد الانتماء إلى البلد واستحقاق أنسنة الضحية أيضاً. فالمسألة في هذا الصدد تتعلق بتمكين عموم الجمهور داخل مصر وخارجها من التعرف على الوجه الحقيقي للجماهير الثائرة بين دخان التعتيم الشديد، واتضاح ما تحمله من مطالب وطنية جوهرية يُفترض أن تكون مفهومة.
فمن تساقطوا في الميادين بالمئات هم في أول الأمر وآخره مصريون، فيهم الشاب والشابّة، الأب والأم، العالِم والطبيب، العامل والموظف، الغنيّ والفقير. ومع ذلك فقد تم حجب هؤلاء عن الجمهور والعالم تحاشياً لخطر تماثل المجتمع مع ذاته، ومنعا لتعاطف الشعب مع آلامه، أو تضامن الضمير الإنساني مع قضية حق وحرية.
إنّه فعل التخدير الموضعي الذي يسبق البتر، وهو عندما يستهدف تيارا مركزيا في المجتمع، حاضرا في المدن والقرى والنجوع في أرجاء مصر، وفي شتى الشرائح عموما، فإن الاستئصال المنشود سيعني الإجهاز على المجتمع لصالح دولة متغوِّلة تديرها طبقة العسكر والنخب التي تحظى بامتيازات السلطة.
مع كلّ هذه الإرهاصات المتضافرة، ألم يكن واضحا منذ وقت مبكر أن كثيرا من الطرق في مصر كانت تؤدي إلى المذبحة، وأن مقترفيها لم يكونوا وحدهم أصحاب الأصابع التي استسهلت الضغط على الزناد يوم الفاجعة؟ المصدر:الجزيرة