المتابع للمشهد المصريّ اليوم، يتبيّن أنّ ربيع الدّيمقراطيّة في أرض الكنانة لم يعمّر طويلا، فقد كابد المصريّون على مدى عقود، بل طيلة قرون من أجل امتلاك إرادتهم وتحقيق مصيرهم، وإقامة دولة جمهوريّة ديمقراطيّة تشرّع للتعدديّة، وتنبني على العدالة والمواطنة، وتنتمي إلى عصر الحداثة السياسيّة، لكن ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه، فقد جرت رياح العسكر في كلّ مرّة بعكس ما يطمح إليه المصريّون، وظلّت الدّولة القامعة على مدى سنين في ذلك البلد الجميل تستمدّ سلطتها من قوّة الجيش، وتبسط سيطرتها على النّاس مستعينة بالأجهزة البوليسيّة والمخابراتيّة، وبوسائل الإعلام وقنوات تشكيل الوعي الجماعي التّابعة لوزارة الداخليّة أو الملحقة بديوان السيّد الرّئيس. وأدّى نهج الحكم الأحادي إلى انحسار واضح للحرّيات العامّة والخاصّة، وانتهاك فاضح لحقوق الإنسان، واتّساع المسافة بين الأثرياء والفقراء حتّى امّحت الطّبقة الوسطى، وانتشرت مافيات نهب المال العامّ، والاستئثار بالنّفوذ والثّروة لصالح فئة دون سواها... ومعلوم أنّ دوام الحال من المحال، فقد أحيت ثورة تونس في العرب عموما، والمصريّين خصوصا، نشوة المطالبة بالحقّ والخروج على الحاكم المستبدّ، فما لبث أن تحدّى المصريّون الزّمرة المستبدّة مُطالبين بإسقاط النّظام الجائر وإزاحة الطّغمة الحاكمة، وذلك بعد أيّام معدودة من سقوط طاغية قرطاج... وقد كان للمصريّين ما أرادوا، فهزّوا عرش الاستبداد بدمائهم الزكيّة وأرواحهم التوّاقة إلى الحرّية وصيحاتهم الصّارخة في وجه الظّلم... وظنّ المراقبون أنّ مصر قد دشّنت مرحلة مستنيرة جديدة في تاريخها، فقد حلّت محلّ القمع الحرّية، ومكان الأحاديّة التعدديّة، وفُتح المجال للاختلاف والتّنافس النّزيه على السّلطة... لكنّ هذا الحلم الجميل لم يدم طويلا، فقد ظلّ العسكر يراوح مكانه، ويحاول بين الفينة والأخرى الوصاية على النّاس، والتّضييق على مساهمتهم في الشّأن العامّ... ثمّ ما لبث أن قلب الطّاولة على الجميع واستولى على السّلطة بقوّة السّلاح، وأزاح عن الحكم أوّل رئيس مدنيّ منتَخب عرفته مصر في تاريخها، بل إنّ الحكّام الجدد لم يقفوا عند ذلك الحدّ، بل وبادروا في أوّل خطوة من عهدهم إلى إغلاق القنوات التلفزيّة المعارضة لهم، وشرعوا في كمّ الأفواه، ومصادرة أصوات الصحفيّين، واعتقال خصومهم السياسيّين، وقصف المتظاهرين السلميّين بالرّصاص الحيّ، فضلا عن اعتقال أعلام الأحزاب السياسيّة الخارجة عن الحكم الانقلابي... لقد وقّع العسكر على مرسوم نهاية الدّيمقراطيّة، وأعاد مصر إلى عصر ما قبل 25 يناير 2011. ومن المفارقة أنّ الإسلاميّين الذي يُنعتون غالبا بأنّهم خطر على الديمقراطيّة هم أكثر النّاس احتراما لقواعدها داخل الاجتماع المصري، فقد قبلوا بالانتخاب والاستفتاء ونتائج صندوق الاقتراع، وركنوا إلى كلّ أسباب التّنافس السّلمي، وفتحوا المجال للحرّيات، ولم يبادروا مدّة حكمهم إلى غلق أيّ منبر إعلاميّ، بل أمّنوا السّير السّلمي للاعتصامات والمظاهرات رغم أنّها ضدّهم، ورفضوا كمّ الأفواه، وسرقة أموال الشّعب، ومحاسبة النّاس على هويّاتهم الأيديولوجيّة. ورغم أنّنا قد نختلف معهم في مستوى أدائهم الحوكمي ومقاربتهم للواقع الاقتصادي والاجتماعي بالبلد، فإنّنا لا نستطيع أن نزايد على قبولهم بقوانين اللعبة الدّيمقراطيّة... وبالمقابل فإنّ الكثير من اللّيبراليّين الذين يحتكرون غالبا الانتساب إلى الدّيمقراطيّة قد كانوا أوّل المنقلبين على الدّيمقراطيّة، فقد رفضوا الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وتنادوا بزجّ الجيش في الشّأن السّياسي، وصفّقوا لغلق العسكر وسائل الإعلام المعارضة، وطالبوا بإقصاء الآخر فقط لأنّه مخالف لهم في الفكر أو الدّين أو الأيديولوجيا. كاتب تونسي [email protected] www.anouarjamaoui.com