تضطلع المؤسّسة العسكريّة في الدّول المتقدّمة بعدّة مهمّات إستراتيجيّة لعلّ أهمّها حماية الحدود، وحراسة المؤسّسات السياديّة والإداريّة، وحفظ الممتلكات العامّة والخاصّة، وضمان الاستقرار الأمني والسّلم الاجتماعي، ومواجهة الخطر الخارجي. وتنأى هذه المؤسّسة الحيويّة بنفسها عن التدخّل في الشّأن السّياسي بالبلدان الدّيمقراطيّة، فهي ملتزمة بالحياديّة، مشغولة بتوفير الظّروف المناسبة للتّنافس السّلمي على السّلطة، حريصة دوما على الانحياز إلى القيم الوطنيّة العليا وعلى خدمة الوطن والمواطن على جهة الإطلاق بقطع النّظر عن انتمائه الحزبي أو الدّيني أو الجهوي أو الطّبقي أو الأيديولوجي. والقارئ لتاريخ العرب الحديث يتبيّن أنّ العسكر في عصر ما يُسمّى بدولة الاستقلال لم يحافظ على الحياديّة، وتلبّس بالسّياسة، وتدخّل في صياغة متنها وهوامشها، وفي بلورة جوهرها ومتعلّقاتها. فلم يكتف الجيش في عدّة دول عربيّة بتوفير الأمن الدّاخلي والخارجي وإدارة الأزمات وحالات الطّوارئ، بل تجاوز ذلك إلى الوصاية على النّاس وإلى الهيمنة على المشهد السّياسي، ومصادرة التعدديّة، ومساندة الأنظمة السلطويّة، وحراسة الدّيكتاتوريّة على مدى عقود، فما حصل من انقلابات عسكريّة في البلاد العربيّة خلا ل القرن الماضي في مصر سنة 1952 والعراق سنة 1958 وسوريا سنة 1961 ثمّ سنة 1963 وفي اليمن 1962 وفي ليبيا سنة 1969، كلّ تلك التحوّلات الانقلابيّة لم تؤدّ إلى إرساخ معالم دولة مدنيّة تقدميّة، بل ركّزت لسطوة الفرد واستبداد الزّمرة الحاكمة بكلّ السّلطات وبكلّ الصلاحيّات على نحو أسهم في إنتاج مجتمع يتكوّن من طبقتين بارزتين طبقة الحزب الحاكم أو الزّعيم المتسلّط وأتباعه وأعوانه الذين يتمتّعون بامتيازات لا نهاية لها، وطبقة المحكومين العيّاشين في ظلّ الدّولة القامعة التي تلغي الآخر، وتمنع المواطن من المساهمة الفعليّة في الشّأن العامّ ومن المشاركة العمليّة في مراقبة رموز السّلطة وأداء الإدارة الحاكمة في مختلف المجالات، ذلك أنّ دولة العسكر تستخدم منطق العنف الشّرعي لضمان استمرارها، فتستظلّ بشعار الدّفاع عن الوحدة الوطنيّة لتمنع حقّ الاختلاف، وتستند إلى حجّة الحفاظ على الاستقرار وضمان الأمن العامّ لتصادر الحرّيات العامّة والخاصّة، ولتحتكر منابر التّعبير، وتغلق وسائل الإعلام المعارضة. وذلك راجع إلى أنّ جلّ المشرفين على الانقلابات العسكريّة يعانون من نقص مضاعف يتمثّل في محدوديّة وعيهم النّظري والعلمي بالدّيمقراطيّة من ناحية، وفي صعودهم إلى سدّة الحكم بطريقة غير شرعيّة، ودون تفويض شعبيّ، وهو ما يجعلهم يناصبون المثقّفين التنويريّين والسياسيّين والإعلامييّن المعارضين والحقوقيّين العداء، ويسعون إلى تهميشهم أو احتوائهم، كما يصادرون كلّ فرصة للتّنافس التعدّدي النّزيه على السّلطة، فيحتكرون الحكم، ويسودون النّاس على أرض مهتزّة، وفي أجواء محكومة بالتوتّر والانغلاق بسبب انعدام الثّقة، وغياب الشرعيّة الشعبيّة، ذلك أنّ المواطنين في دولة العسكر لا يعامَلون باعتبارهم ذوات حيّة مستقلّة، وكائنات ثقافيّة فاعلة مفكّرة وناقدة، بل بل يعاملون باعتبارهم موضوعات خضوع وكائنات ملحقة بالقصر، مهمّتها التّزكية والتّصفيق للحاكم أو الوقوع في مهواة الإقصاء والتّهميش والتّشريد والتّعذيب. من هنا فإنّ دولة العسكر هي دولة أحاديّة شموليّة بامتياز لم يجن منها العربيّ طيلة عقود سوى سنوات من الكبت والقمع ورصيد هائل من الإحساس بالظّلم والشّوق إلى الحرّية. وقد أعادت ثورات الرّبيع العربي ترتيب العلاقة بين الحاكم وبين المحكوم، وحدّت من نفوذ المؤسّسة العسكريّة، وفتحت المجال واسعا لتشريك المواطن في صياغة الشّأن العامّ، وحرّرت إرادته، ومكّنت له من أسباب التّفكير وحرّية تقرير المصير، وأعادت موقعة الجيش ضمن دائرته الأساسيّة المتمثّلة في حماية البلاد والعباد، وتأمين السّلم الاجتماعي دون انحياز لطرف سياسيّ مَا. غير أنّ ما حدث في مصر يُخبر بأنّ العسكر قد خرج من الباب ليدخل من الشبّاك، معيدا التحكّم في المعترك السّياسي، ومؤسّسا لديكتاتوريّة أخرى بأسماء جديدة. وهو ما يُعدّ خطرا دائما يهدّد الدّولة المواطنيّة وتجربة الانتقال الدّيمقراطي في بقيّة دول الرّبيع العربي. كاتب وباحث تونسي.