إن نجاح اليمن في تنظيم دورة رياضية أمرٌ جيّد بالطبع. لكنه لا يعني أن اليمن أصبح «ناصع البياض» كما في بيان المؤتمر الشعبي العام المضاد لبيان اللجنة التحضيرية للحوار. إنه فقط يعني أن «الفضيحة الكُبرى» لم تحدُث بعد أقف ضد محاسبة أحد بسبب هزيمة المنتخب اليمني في خليجي 20. لم يكن القادة ينتظرون شيئاً ذا بال، فكيف تطالبهم الجماهير بمراجعة أسباب «التفريط في شرف» لم يكن في الحُسبان. فمنذ البداية كان قرار استضافة خليجي عشرين عاجلاً وبلا مقاييس، تماماً مثل حرب صعدة. وحدها حرب 94م كانت مخططة بعناية، وهي المشروع الوحيد الذي حظي بتأمل عميق ودراسة منهجية جادّة، وبالضرورة فقد كانت نتائجها مريحة. الزميل فكري قاسم، قبل انطلاق الدورة الرياضية، أبدا تهكماً رائعاً من إشادة نائب وزير الداخلية بأداء المنتخب اليمني. أما شباب جنوب اليمن فقد تداولوا، عبر مواقع عديدة على الإنترنت، نكتة شديدة الذكاء: انهزم المنتخب اليمني في عدن لأنه ليس متعوّداً على اللعب «خارج أرضه». وما بين هاتين السخريتين تأكدت الحتمية اليمنيّة المعاصرة: ليس بمقدور الإنسان اليمني المنافسة عند أي صعيد. إنه فقط وجَد لكي يتأمّل العالم، تأملاً عفويّاً، بعينين مليئتين بالإحباط واليأس. إن هذه الحتمية العملية، المؤكّدة سيكولوجيّاً، لا يمكن تفكيكها أو محوها في زمن قصير. إنها بحاجة إلى عملية «إعادة برمجة للذهنية والنفسية» اليمنية على نحو دؤوب عبر مراحل من تقديم النموذج الذكي، القائد القادر على الإلهام والإبهار، وإعادة الانتظام في مراحل ما قبل لحظة الانقطاع التاريخي، لحظة المجد السابق للانهيار. يمكن أن يكون المدخل عبر ما يمكن تسميته ب (تقديم شخصيات اجتماعية على شكل ماركات ثريّة) بمستطاع الشاب اليمني أن يقف بجوار صورتها في الشارع لكي يقول للعالم: أنا من بلد هذا الشخص. إن هذه الحاجة النفسية العميقة هي التي تدفع الشباب اليمني، على الإنترنت، إلى الاحتفاء بذكرى رحيل الحمدي بالرغم من أنهم لم يجايلوه لكنهم سمحوا لأنفسهم- في ظل شعورهم بالحاجة إلى النموذج المُلهِم- بالإيمان بمشروعه وبقدراته. بالعودة إلى فكرة محاسبة المسئول عن الفشل، فمن المفترض أن تطرح أسئلة على شاكلة: ما هي درجة الحُيود، الإنزياح، التي اجتازها المنتخب بالنسبة للهدف الرئيسي لهذه البطولة؟ في الواقع: الدرجة بلغت صفر. وهو ما يعني أن خط سير الفريق، رغم كل هزائمه، تتطابق مع خط سير مشروع إقامة البطولة. لقد كان مشروعاً سياسيّاً بامتياز هدف إلى تأكيد قدرة الدولة على السيطرة على أراضيها، رداً على الرؤية الدولية المعاكسة وفي طليعتها الموقف السعودي، كما تأكّد مؤخراً في حديث الأمير محمد بن نائف الذي تسرّب عبر وثائق ويكيليكس. لقد تحقّق الهدف، بالنسبة للقادة، وأما هزيمة المنتخب اليمني فهي مجرّد «أمور تحدث عادةً في كرة القدَم». ألمح الرئيس إلى المعنى إياه في حديث هاتفي بليغ ومعقد مع اتحاد الكرة، كما أكّده في لقائه بالمنتخب وجهازه الفنّي. هل نلوم وزير الشباب والرياضة على هذه الفضيحة الشاهقة؟ ليس من حقنا أن نكون بهذه القسوة فالرجل لا علاقة له بأي شيء يخص الرياضة، فكيف نحاكمه في قضايا واقع الحال يقول إن رأسه، بخصوصها، أفرغ من فؤاد أم موسى. ففي لقائه الأخير مع صحيفة السياسية أدرج في قواميس الرياضة مصطلحات «تفطّس من الضحك». سيقفز إلى الواجهة من سيقول لك: لا تطالبوه بأشياء كثيرة فالوزارة ليست سوى منصب سياسي. ياللفطنة! ما هذا التبرير الساذج، وكأن «المنصب السياسي» مرادف ل : الاختيار بلا شروط! يتحدث الرسميّون، وممالئوهم، عن نجاح الاستضافة كنصر جدير بالثناء العارِم. وبغض النظر عمّا إذا كانت الاستضافة في عدن قد نجحت أم لا، فإن أي بلد في العالم- مهما بلغت درجة فشله- بمقدورِه أن يستضيف دورة كروية لثمان فرَق. إن مجرّد التشكيك في «القدرة على استضافة دورة رياضية» يعني بصورة قاطعة أن الدولة المعنيّة فاشلة بصورة تدعو للرثاء. فقد استضافت أنغولا وبوركينافاسو دورات قاريّة. وبرغم الوضع الاقتصادي المتعب للدولتين إلا أن دول القارة السمراء لم يساروها شك في قدرة أيّ من الدولتين على تنظيم بطولة كروية. إذ إنها مجرّد «دورة رياضية» تحدثُ في أي مكان، ولو على ظهر سفينة. لقد استضافت كردستان العراق دورة رياضية لست فرق تحت تهديد «ما يُسمى» بتنظيم القاعدة، وفي زمن يتنافس فيه 17 فصيلاً مسلّحاً على إطلاق النار. لم ينظر أحد إلى نجاح دورة رياضية بوصفه نجاحاً باهراً. وبالنسبة للعراقيين فقد كان موضوع «نجاح الفريق العراقي» في دورة كردستان هو الأهم. إن نجاح اليمن في تنظيم دورة رياضية أمرٌ جيّد بالطبع. لكنه لا يعني أن اليمن أصبح «ناصع البياض» كما في بيان المؤتمر الشعبي العام المضاد لبيان اللجنة التحضيرية للحوار. إنه فقط يعني أن «الفضيحة الكُبرى» لم تحدُث بعد. وكون اليمن وقعت لفترة تحت طائلة التوقعات المنطقية بحدوث فضيحة مدويّة، حتى وإن لم تحدث فيما بعد، هو بحدّ ذاتها فضيحة كبرى. وكالعادة، يخطئ الساسة الرسميّون في قراءة الواقع اليمني، فهم يتعاملون مع متتالية الأزمة اليمنية ب»القطعة». إنهم، وحسب، الجزء الأصيل في المشكلة اليمنية. إن القول بنجاح خليجي عشرين في عدن يقصد به أن التنظيمات المسلحة «القاعدة، وبعض مسلّحي الحراك» لم تفجّر الفنادق والملاعب ولم تؤذِ الجماهير. لكن ماذا عن قتل العشرات في صعدة والجوف في نفس وقت الدورة الرياضية؟ لماذا لم يغادر وزير الداخلية عدن، اليمنية، إلى صعدة والجوف «اليمنيتين» للاطلاع على ما حدث عن قُرب؟ هل معنى نجاح الدورة الرياضية هو «أن لا يموت المواطن في عدن، مع إمكانية أن يموت في مكان آخر»؟ يا للنجاح إذن! لاحظوا أن وزير الداخلية أعلن انتهاء البطولة «دون حوادث أمنية». لم يشِر إلى حادثي الجوف وصعدة المرعبين، فهو ربما مثلنا لم يعد متأكّداً ما إذا كانت الجوف وصعدة تتبعان الجمهورية اليمنية أم أنهما في طور الانتقال إلى حقبة زمنية وسياسية أخرى! لكن، ماذا لو ركنّا الوزراء جانباً وذهبنا لكي نتذكر هذا الحدث الطريف: عندما سئل النجم البرازيلي بيليه عن رأيه في هزيمة الأرجنتين بقيادة المدرّب دييغو أرماندو مارادونا «ستة – صفر» من قبل منتخب بوليفيا، علّق بيليه مبتسماً: ليس ذنب مارادونا، فقد عمل الرجل ما في وسعه لتدريب المنتخب. الذنب يقع على اتحاد الكرة الأرجنتيني الذي اختار رجلاً لا يصلح للتدريب. بالعودة إلى وزير الشباب والرياضة، ثمّة تساؤل عصي على الهضم: اختار الرئيس صالح الأخ عُباد لوزارة الشباب والرياضة، وهو يعلم قلة حيلته. إن أبسط دلالات هذا الفِعل هي أن الأول، الرئيس، لم يكن يأبه بالمرّة لأمور الرياضة في بلده وإلا لفكّر مليّاً قبل أن يقدم على هذه المفارقة المرعبة. هل يشعر مستشارو الرئيس بالرضى لأن اختيارات الرئيس، غالباً، ما تدفعنا إلى استنتاجات على هذه الشاكلة؟ على أية حال فلا يزال باستطاعته أن يتدارك جزءً من هذه الخطيئة «ويصلح غلطه». انفعل وزير الشباب والرياضة، الأخ عُباد، وصرخ بصوته الجهوري «الذي يطالبني بالاستقالة يكشف الخلل الأخلاقي في نفسه وسلوكه». لم ينس الوزير أن يصف منتقديه بالمعتوهين، إضافةً إلى إصابتهم بالخلل السلوكي. لم يحدد الوزير ماهية هذا الخلل السلوكي، وما إذا كان سيصرّ على وصف المطالبين بإقالته بالمعتوهين فيما لو طلب منه رئيس الجمهورية أن يقدم استقالته. وبالمناسبة: إن هذا التصريح الصادر عن الوزير يجعل التفكير في موضوع الخلل النفسي والسلوكي معقولاً ووجيهاً. إذ بمقدور المتابع أن يتساءل عن السوية النفسية لشخص يصف جماهير شعبه المحبّة لبلدها بالمعتوهة والمختلة عقليّاً وسلوكيّاً! بيدَ أن المفكر السياسي علي الصراري تطوّع لمواجهة هذه العلانية الوزارية المَهينة بعلانية شجاعة: إن هذا الوزير، طبقاً للصراري، هو أقل الوزراء كفاءة وأكثرهم فساداً. وبالنسبة للأخ أحمد قائد الأسودي فإن هذا التصريح يعكس مزاجاً إماميا لشخصية إماميه بكل تفاصيلها. وإذا أردنا أن نبني على هذه الفكرة وعدنا إلى الوراء قليلاً سنتذكر بجلاء كيف كانت خطابات الوزير في ذمار، إبان الحملة الانتخابية الرئاسية، تكفيرية وتحريضية مخيفة تختلف في الدرجة لا في النوع عن خطابات ناصر الوحيشي وأنور العولقي. لقد أشرتُ إليها في حينه في مقالة بعنوان «الحاكم إرهابياً» نشرت في الصحوة نت. لدينا الآن منتج هجين: إمامي قاعدي. ليس من المناسب، هكذا أتصور، أن نغرق في الحديث عن هذا «الإمامي القاعدي» لأسباب غير معقّدة. فمن ناحية، أنا لا أعتقد أن الحوثيين الإماميين يمثّلون الشر المحض. كما لا أعتقد، بأي درجة، بوجود تنظيم «شعبوي» مستقل اسمُه تنظيم القاعدة. وحين نقول: شعبوي، ومستقل، فنحنُ نشير إلى لعبة اسمها تنظيم القاعدة لا إلى تنظيم يلعب منفرداً لعبة دوليّة. لاحظوا أن تفجيرَي الجوف وصعدة حدثا عبر سيارتين «رباعية الدفع». وبحسب موقع الاشتراكي نِت فإن المحلل السياسي الذي ظهر على قناة الجزيرة معلّقاً على هذه الحادثة استخدم في مداخلته ذات النصوص التي سترد في بيان لتنظيم القاعدة بعد ذلك بيوم واحد فقط. وبرغم هذا الموقف تجاه الإماميين والقاعدة إلا أن حاصل جمع النقيضين المتشابهين «أن تكون إمامياً قاعدياً» يؤدي إلى مزيج غير مريح، قد يكون حصيلة قاسية لأكثر الجوانب ضراوة وعنفاً في النوعين. أتذكر الآن آمراً ما: كنّا نتحدّث عن الرياضة منذ خمس دقائق فقط كما في الأعلى. ولم يكن ليخطر في بالنا أن الإشارة إلى وزير الشباب والرياضة سرعان ما ستقودنا إلى القاعدة والحوثيين. لكن الأمرَ حدث، وهي «أمورٌ تحدثُ عادة» حين يكون الشخص أكثر من كونه مجرّد ذات. أي عندما يكون الشخص المُشار إليه موضوعاً.