كم كان هؤلاء الشباب عظماء، وهم يصلحون وجوهنا المقلوبة، ويعيدون ترميم ذواتنا المعطوبة، ويعيدون ترتيبنا من الداخل بما يتلاءم والشعلة المقدّسة التي تشع بين جوانحنا، ويعيدوننا إلى فضاءات الهواء الطلق لنستنشق نسائم الحرية، بعد أن قتلتنا عوادم التسلَّط، وأدخنة الاستبداد كبتا وقهرا. ** كم كان الشيخ يوسف القرضاوي جميلا ورائعا، وهو يستشهد في رسالة وجهها للرئيس المصري عبر قناة الجزيرة الفضائية ببيت الشاعر أحمد شوقي القائل: زمانُ الفردِ يا فرعونُ ولّى ودالتْ دولةُ المتجبّرينا لقد شعرت حينها أن روحا دفّاقة تسري بين مدافن الشعر، وأضرحة الشعراء، فإذا بهم قيامٌ ينظرون، وبأنَّ قيامة كبرى، تدك جدار الخوف، وتحرر الشعوبَ من جبنها وموتها، وتسوقها إلى ميادين الرفض، لتصرخ بملء إرادتها، وبملء شجاعتها، وبملء شبابها المتفجر عنفوانا وفتوة: أن العصر عصر الشعوب، وأنَّ زمن الفرعون ولى إلى غير رجعة. هؤلاء الشباب الرابضون هناك في ميادين الرفض، لغز حيَّر العالم، وسرٌ عجزت كل مراكز التقصي ومؤسسات الرصد أن تفك طلسمه، بل ومفاجأة كبرى لذلك التيار المحموم الذي ترعاه منظمات عالمية، والذي ظلت عجلته تدور على مدى عقود متطاولة بين هؤلاء الشباب مسخا، وتدجينا، وإشاعة لثقافة الموضة، وتكريسا للسلبية، حتى استقر في روع هذه المنظمات أنها أفلحت إلى حد بعيد ببت الصلة بين هذا الجيل وبين ثقافته وهويته، وأنه صار مثالا قميئا لضفادع النينجا، ومسخا مشوها لنجوم «هوليود»، غير أنَّ هؤلاء الشباب كانوا معجزة هذه الأمة التي لا تموت، لقد استفادوا ما أمكنهم من كل وسائط الاتصال الحديثة في تكوين جبهة للرفض تستعصي عن التهميش، وتتطاول أمام شتى المغريات بعظيم إباء وكثير شمم. وكم كان هؤلاء الأحرار عظماء، وهم يصلحون وجوهنا المقلوبة، ويعيدون ترميم ذواتنا المعطوبة، ويعيدون ترتيبنا من الداخل بما يتلاءم والشعلة المقدّسة التي تشع بين جوانحنا، ويعيدوننا إلى فضاءات الهواء الطلق لنستنشق نسائم الحرية، بعد أن قتلتنا عوادم التسلَّط، وأدخنة الاستبداد كبتا وقهرا. لقد اكتشفنا بهم أننا لا نزال أحياء، وأننا بقليل من الإرادة يمكن أن نخرج من مهامه التيه ودوائر الضياع، وأننا لا نزال نحمل بين جوانحنا جذوة الإنسانية المتقدة التي حاولت الأنظمة على مدى عقود وعقود أن تطفئها أو تحولها إلى شموع مريضة تحترق عبثا، وتذوب سدى، في أقبية مكتومة، لا تعرف غير الزعيم الأوحد، والقائد الفذ، والرئيس الملهم. لقد دبّتْ الحياة في أرواحنا المشروخة، وأشرقت الحياة في نفوسنا الوجلة المتعبة، واعشوشبت صحارينا القاحلة، وأورقت أشجارنا اليابسة، وثمة ربيع قادم يعيد للنهر ألقه، وللمروج خضرتها، وللظلال الوارفة شاعريتها، ولنا إنسانيتنا المهدورة التي بحثنا عنها طويلاً طويلاً في طوابير الاستجداء وقوافل المتسكّعين، فكانت المفاجأة أنا وجدناها.. ولكن في هدير العواصف وهزيم البروق. دخلت العنتريات العربية غرفة العناية المركّزة، وتحقق موتها سريريا، وأوشكت صحفنا المشلولة أن تتلو بيان نعيها، وتحول الشعراء إلى مجاذيب يحرقون أيامهم في حفلات الزار، وتحول السياسيون إلى مهرجين وحملة مباخر، وامتلأت عيوننا بالرماد، وزحفت أحقاف الرمال إلى مكتباتنا، فدفنت دواوين الشعر، ونصبت شواهد قبورها على أسفار الفكر، واعتُبِرتْ لغةُ الضاد إرهابا ينبغي ملاحقته وتضييق الخناق عليه، وتحولت منابرنا إلى قوالب رتيبة يعاد فيها القول على نحو مقرف من التكرار والاستنساخ، وتحوّل خطباؤنا إلى شبابات منتحبة في شفاه الريح، حتى جاء هؤلاء الشباب أمطارا تغسل عنّا أوحال القنوط، وتذهب عنا الرجس وكيد الشيطان، فأورقتْ عيوننا، وعاد للشعر صولجانه، وللفكر ريعانه، وأزهرتِ الضاد في شفاه تلهج بالحياة، وتنادي بالحرية، وخرج خطباؤنا من جلودهم الميتة، أحياء يتحدثون بهمومنا، ويتكلمون بلساننا، ويستشرفون مدينة الفجر القادم.
ثم أدركه الغرق في تاريخ الرسل والرسالات: رسول واحدٌ.. بمعجزة واحدة.. إلى أمة من أمم الأرض، وثمة استثناء: موسى وهارون، في تسع معجزات، إلى فرعون وملئه فقط، لكنَّ كبرياء فرعون الزائفة حالت دون أن يؤمن وهو يرى المعجزات تتوالى أمام عينيه واحدة تلو الأخرى، بل إنه طغى وتجبّر، وذهب في عناده كل مذهب.. لكنّه حين أُسْقِطََ في يده؛ جأر بملء ذلّه وصَغارِهِ: آمنت!!