يتذكر حكامنا علماء الأمة فقط حينما يكونون في ورطة ويحتاجون لمن يُخرجهم منها, أو حينما يرتكبون المحظور ويصادمون إردة شعوبهم ويريدون من يبرر لهم أفعالهم, وإلاّ فإنهم لا يعيرونهم اهتماماً, ولا يقبلون لهم رأياً ولا يأخذون منهم مشورة, فالجدار الحديدي-على سبيل المثال- الذي نصبه مبارك على حدود مصر مع غزة إمعاناً منه في خنق القطاع ومحاصرة أهله لترضا إسرائيل وواشنطن, أصبغ عليه شيخ الأزهر السابق مشروعية دينية بموجب فتوى أباحت ذلك بمسوغ حفظ أمن مصر, في حين الغاز المصري المتدفق على إسرائيل بأقل الأسعار لم يكن بحاجة إلى فتوى الأزهر لأنه من مسائل السيادة التي لا تخضع للفتوى, هكذا قالوا! وفي حين حرّم بعض علماء حكام العرب خروج الجماهير العربية إلى الشوارع لنصرة إخوانهم في غزة, لم نسمع في المقابل فتاوى تدين صمت الحكام وتخاذلهم عن نصرة إخوانهم الذين حصدتهم آلة القمع والإرهاب الصهيونية طيلة شهر كامل! وفي اليمن حرمت فتوى لبعض أهل السلف منافسة من أسمته ولي الأمر في الانتخابات باعتباره خروجاً على الحاكم لا يجيزه الشرع! لكن لم نسمع فتاوى بحق من يسرق ثروات الشعب ويبيعها ببخس مقابل عمولات بملايين الدولارات, ولم نسمع فتاوى تُجرّم من يُبيح إنتهاك السيادة الوطنية ويعطي الإذن لطائرات أمريكية بدون طيار أن تقصف القرى والمدن اليمنية, وتقتل اليمنيين في بيوتهم وفي شوارعهم ليقول للرأي العام بعد ذلك تلك كانت طائراتنا وأسلحتنا. النظام يتهم العلماء بالإرهاب فجأة أظهر النظام الحاكم غيرته الشديدة (المصطنعة) على علماء اليمن بسبب ما أسماه تطاول أحزاب المشترك عليهم حينما دعتهم إلى أن يثوبوا إلى رشدهم ويتفهموا المطالب المشروعة للشعب اليمني الذي خرج بالملايين الى ساحات المدن اليمنية وميادينها ينادي بالتغيير. كل ما في الأمر, أن المشترك أراد من العلماء الأفاضل أن يتحرروا من ربقة السلطان, ويتجردوا من الأهواء ونزغات الحاكم, لتكون فتاوهم خالصة لوجه الله تعالى. كلمة الثورة ليوم السبت 5 مارس الجاري والتي حملت عنوان (تطاول على العلماء) اتهمت أحزاب المشترك بتجردها من أبسط قواعد الاتزان والرشد السياسي ورزانة العقل وحصافة المنطقق, بحسب تعبيرها, ووصفت بيان المشترك بأنه بيان مُسف بحق علماء أفاضل أجلاء, يحظون بالتوقير والاحترام من كافة أبناء الشعب اليمني. والحق أنه لاخلاف البتة على أن علمائنا الأجلاء يحظون بالتوقير والاحترام من كافة أبناء الشعب اليمني, الخلاف فقط حول ما إذا كانوا يحظون بالتوقير والاحترام ذاته من النظام الحاكم! فالصحيفة ذهبت إلى أن أبناء الشعب هم وحدهم من يُجلون العلماء ويُكنون لهم الاحترام, ولم تُشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أن السلطة والنظام الحاكم يحملان القدر نفسه من الاحترام والتوقير لعلماء اليمن وقد كانت منصفة في ذلك, فلم يُعرف عن النظام الحاكم في اليمن احترامه العلماء وتقديره لدورهم, وأسترشاده برأيهم وفتاويهم إلاّ عندما يحتاجهم إلى جانبه, وإلاّ فإنه أول من يسخر منهم ويكيل لهم التهم, بل ويصفهم أحياناً بأعداء الوطن! وهاكم ما قالته صحيفة الثورة نفسها التي تتشدق اليوم وتزايد باحترام العلماء وهي أبعد ما تكون عن هذا الاحترام, ففي ردها على بيان العلماء بشأن رفضهم لأي تدخل أجنبي في اليمن عقب تزايد الحديث عن تحول اليمن إلى ملاذ آمن للقاعدة, وأنه يمكن أن يتحول إلى ساحة حرب دولية على الإرهاب كما في أفغانستان وباكستان والعراق, قالت صحيفة الثورة في إفتتاحيتها بتاريخ الثامن عشر من يناير 2010م تحت عنوان ( لماذا التباكي على الإرهاب) :"ولماذا يتباكى هؤلاء العلماء على الإرهابيين الذين خرج بعضهم من تحت عباءتهم وتأثر بفتاويهم التحريضية على العنف والتشدد والتطرف، وهل أرادوا بذلك أن يكونوا غطاءً لأولئك القتلة والسفاحين، الذين عاثوا في الأرض فساداً وترهيباً". هكذا وبكل بساطة اتهمت صحيفة الثورة والنظام الذي يقف ورائها علماء اليمن بأن الإرهابيين خرجوا من تحت عبائتهم, متأثرين بفتاويهم التحريضية على العنف والتشدد والتطرف على حد زعم الصحيفة, ما يعني أن علماء اليمن هم مصدر هذا العنف والإرهاب الذي يشهده اليمن, وهم مرجعيته, وأنهم يوفرون بفتاويهم مظلة شرعية وغطاء لمن تصفهم الصحيفة بالقتلة والسفاحيين!! وهنا نتساءل؛ هل أبقت صحيفة الثورة والنظام الحاكم الذي يقف ورائها أي قدر من احترام أوتقدير لعلماء اليمن بعد كل هذا الاسفاف الذي قالته بحقهم؟ لقد جعلت منهم منبع الإرهاب والتطرف في اليمن, ووصفت فتاويهم بأنها تمثل غطاءً للقتلة والسفاحين, وتأتي اليوم لتقول أن علماء اليمن يحظون بالتوقير والاحترام, فأين كان هذا التوقير والاحترام غداة أن أدعت أن الإرهابيين خرجوا من تحت عباءتهم؟! وأضافت الصحيفة- في الإفتتاحية نفسها- أن :" من المؤسف والمؤلم أن تختلط لدى البعض المفاهيم إلى درجة يصبح فيها غير قادر على التمييز بين الحق والباطل، وبين الجائز وغير الجائز". فعلماء اليمن في نظر صحيفة الثورة والنظام الذي يُملي لها ما تقوله لم يبلغوا الحُلم بعد, فهم غير قادرين على التمييز بين الحق والباطل, والجائز وغير والجائز, والسبب بسيط للغاية, فالجائز في عرفهم ودينهم ما وافق مصالحهم وأهوائهم, وما عداه باطل وغير وجائز. وتضيف الصحيفة :"يصبح الأمر أكثر مدعاة للاستغراب، عندما تنحرف البوصلة ببعض العلماء وتختلط الأمور لديهم بصورة تدفع بهم إلى التباكي على عناصر الإرهاب من تنظيم القاعدة بشكل لم نجد له تفسيراً ولا مستنداً، لا في كتاب الله الكريم ولا في سنة رسوله". إذاً فقد انحرفت بوصلة علماء اليمن عندما مارسوا حقهم الشرعي والطبيعي والقانوني وحذروا السلطة من مغبة التهاون تجاه أي تدخل خارجي! واختلطت عليهم الأمور- بحسب الصحيفة- حتى أصبحوا يتباكون على عناصر الإرهاب, ولا غرابة, فالإرهاب طبقاً لما أكدته الصحيفة في إفتتاحيتها سيئة الذكر هو صنيعة العلماء ونتاج فتاواهم, لكنها اليوم تعود لتؤكد على أنهم يستحقون الاحترام والتوقير, لا لشيء سوى أنهم باركوا مبادرة رئيس الجمهورية ذي الثماني نقاط, وهي المبادرة التي تضمنت بالأصل سبع نقاط لاغير, لكن بمجرد خروج الشيخ الزنداني من عند الرئيس تحولت بقدرة قادر إلى ثماني نقاط ليؤكد النظام مدى توقيره للعلماء واحترامه لمواثيقه وعهوده معهم. هل هذا دين أم سياسة نسأل النظام الحاكم؟ وإذا كان النظام يُكن للعلماء كل الحب والاحترام والتبجيل وينزل عند رأيهم الشرعي ويعمل بفتاويهم فلماذا حال بينهم وبين أن يقولوا رأيهم الشرعي في جريمة تهجير أبناء الجعاشن من بيوتهم تحت سمع وبصر الدولة التي وصل بها الضعف والعجز حد عدم استطاعتها إرسال لجنة لتقصي الحقائق خوفاً من بطش شيخ الجعاشن, لماذا لم يطلب النظام فتوى علماء اليمن فيما فعله شيخ الجعاشن بمواطنين يمنيين لهم كامل الحقوق الشرعيىة والدستورية؟ الجواب واضح وهو أن النظام في حالة كهذه ليس محتاج للسادة العلماء قدر حاجته لشيخ الجعاشن وأمثاله من المشيخ الذين يحتاجهم في الانتخابات, وبالتالي تطلب الأمر تقديم المصالح الانتخابية والسياسية للنظام على المصالح الحقوقية للناس, فكان على العلماء أن يلزموا الصمت حرصاً على عدم إثارة الناس ضد النظام, ولا مانع حينها من إبعاد الدين عن قضايا حساسة كهذه, فالأصل مصلحة النظام وليس مصلحة المواطن. منطق النظام الحاكم في مخاطبة العلماء يقول, حيثما تحضر مصالح الشعب وتغيب مصالح النظام فثمة فتنة تستوجب وأدها, والفتوى بحسب الطلب, ولا ينبغي للعلماء إقحام أنفسهم في أي قضية وطنية دون إذن النظام. أين كان هذا النظام الذي يعلن اليوم بأنه سيقول سمعاً وطاعة لما سيقرره العلماء بشأن الخلاف الدائر بين الشعب والرئيس صالح, حين نشبت أزمة الجنوب واتسعت رقعة الحراك وارتفعت أعلام الانفصال؟ لماذا لم يرجع إلى العلماء ليسئلهم موقف الشرع مما يدور؟ ولماذا لم يأخذ رأي العلماء الأفاضل في الخلاف والصراع الدائر مع الحوثيين الذي تسبب في إشتعال ستة حروب أهلكت الحرث والنسل؟ ولماذا لم يأخذ رأيهم الشرعي في الصراع الدائر مع ما يسمى تنظيم القاعدة ويبحث معهم سبل الخروج من دائرة العنف والعنف المضاد؟ لسنا بحاجة إلى كثير عناء لنكتشف الجواب الذي ربما غاب عن الكثيرين من أبناء اليمن وهو أن النظام حرص على عدم معالجة أياً من تلك القضايا, لتبقى كملفات مفتوحة وأزمات مستعصية تمكنه من الاستمرار في إدارة البلد طبقاً لمبدأ الإدارة بالأزمات. لذا لم يكن النظام بحاجة إلى استدعاء العلماء لمناقشة تلك الأزمات وأخذ رأيهم الشرعي فيها كونه لم يرغب أساساً في حلها, ولهذا أبقى العلماء بعيداً عنها ليسنى له اللعب بها وقتما يريد. يحاول النظام اليوم الاتكاء على العلماء الأفاضل وحشدهم في صفه لمقارعة مناوئية, كي يوحي للمواطن البسيط بأنه يمثل الشرعية وأن معارضية خارجين على هذه الشرعية, علاوة على أن إقحام العلماء في هذا الصراع يكسبة بعداً دينياً ويجردة من مضامينه السياسية وهو ما يريده النظام للتغلب على قوة الضغوط الشعبية والسياسية التي تستند إلى المشروعية الدستورية التي يهرب منها نظام متآكل أوشكت دولته على الأفول.