[email protected] تقف الثورة، اليمن المعاصر، على قدميها بالكاد. تقاتل شبكة الموت والمصالح بكل إصرار. تدفع ثمناً لانعتاقها دماً ومالاً ووقتاً ومشاعر ليست مما يقاس بثمن. أما داخل الثورة فتقاتل مجموعة ثورية ضد البهيموث الأسطوري، تنّين كل العصور: الإخوان المسلمين. أو: حزب الإصلاح. يوجد علمانيّون وإسلاميّون داخل نسيج الثورة. هذا فرض يصعب تأكيده على المستوى النظري الخالص. يجرّ الطرفان معاركهما القديمة. وفيما يبدو فضّل البعض أن لا يتخلوا عنها ولو مؤقّتاً. من الناحية الفكرية الذهنية لا وجود لعلمانيين محضين، ولا إسلاميّين خالصين. توجد فقط معارك الطرفين، كما يوجد الطرفان من الناحية «الذّهانية». هذه المعارك يخوضها متلبّسون بالمشروعين، روحانيون وليس أرواحاً. بعيداً عن هذه الملاحظة، وفي المجمل، توجد في اليمن، تاريخاً وحاضراً، مشاريع علمانية وإسلامية جديرة بالاحترام، وهي لا تنتمي إلى ما نحنُ بصدد الحديث عنه لكي لا يفهم الأمر على نحو ملتبس. يخرج شاب متحمّس للثقافة العالمية، وربما لم يفهمها كما يجب لأنه لم يحصل على فرصة اختبارها ومعرفتها عبر اللغة والجغرافيا، إلى أطراف ساحة الحريّة/ التغيير. يصرخ في أعماقه: رأيتُ شباباً إسلاميين ينهرون امرأة غير منتقبة، وفيما يبدو اتّهموها أيضاً بالعمل لحساب الأمن القومي، وأمروها في الأخير «لو عندك تلفزيون في البيت كسّريه» على طريقة تامر أمين في البرنامج المصري الشهير «البيت بيتك». طبعاً دعونا ننسَ أن هذا الشاب العصري، نفسه، يعاني من لعنة أدونيس: رجل عاشقٌ، قيدُه امرأة في نقاب، طفلةٌ في حجاب. أي أنه شخصياً يفرض النقاب على امرأتِه، والحجاب على طفلته، أو أخته، وربما اعتدى على عمّته بصورة متوحشة لأنها خرجت مع خطيبها إلى مطعم ريماس! حتى إن كان أدونيس لا يقصد مثل هذه الإشارات، لكن مراوغة الدال تفسح مجالاً للانهائية المدلول، كما يقول النقاد التفكيكيّون. مبكر جدّا على أعراض الإخوانوفوبيا. من يثير الرعب من الإخوان المسلمين في ساحات الاعتصام هو لا يفعل أكثر من أنه يطعن الثورة في قلبها الغضّ. لأن المقابل لموقف كهذا هو أن يصرخ الإصلاحيون: القوميّون النازيون قادمون، الفاشستية اليسارية تسيطر، الرأسماليون الحقراء يشقون طريقهم لتحويل اليمن إلى "سوق" لمنتجاتهم، وليس إلى دولة للجميع. لا تنسوا أن الفكر الإسلامي يخوض مواجهة ضد الرأسمالية، رأسمالية كينز المقيدة بسيطرة الدولة في الثلاثينات ورأسمالية فون هايك وصبيان شيكاغو المحرّرة عن القيود في السبعينات. تذكروا كتاب: معركة الإسلام والرأسمالية لسيد قطب، الذي كتبه قبل التحاقه بالإخوان المسلمين بأكثر من خمس سنوات، أي منتصف الأربعينات. هناك من يصرخ الآن في الساحات والصحف على طريقة رفعت السعيد: المتأسلمون يضربوننا بأعقاب البنادق. وفي المقابل، يصرخ شباب إصلاحيون: غلمان ستالين يحاصرون أنفاسنا! صوتان عاليان، والمحصلة انتهاك لقداسة الثورة، وحصار للأخلاق الجديدة التي لم تجف بعد مدائحنا لها. قندهار، قريش. هذه الثنائية هي التي ربما ستسرّ بعض المتحمّسين من الناشطين والناشطات. أن يدفعوا إلى ظهور خطاب يهاجم قريش بمقابل خطابهم الذي يقود معركة باسلة في أفغانستان. كأنهم يصرخون: نحن في قندهار نكاد نرى بيت الله محسود. وأحس بمشاعرهم وهم يتمنّون أن يسمعوا هتافات عنيفة على شاكلة: نحن في قريش، نكاد نرى أبا لهب وأم جميل. هذا الهتاف سيكون له وقع العلاج الناجع لبشر يحسّون أنهم ضحايا لعملية استبعاد كبيرة، أو قمع مرئي وغير مرئي، على طريقة جار أبي حنيفة "أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا" لكنهم يجدون صعوبة حادة في العثور على أدلة الاستبعاد وظواهر القمع. في المحصلة سندخل في النقائض: الهجاء المقذع الذي لا ينتمي إلى زمن الثورة. ذلك الهجاء الذي يجسّد أزمنة الانحطاط والعطالة القاسية. المنشغلون بالأمور الكبيرة ينظرون بتقدير كبير لمقولة المفكر الشيوعي "إنغلز" عن أن البروليتاريا ليس من حقّها أن تفكر في المسألة الديموقراطية "حتى تنجز مهمتها الثورية". الثورة هي فعل تعجيل وتأجيل. تؤجّل الخلاف لصالح إسقاط الوضع القاتل، الفعل الذي من شأنه أن يفسح مجالاً صحيّاً "لإدارة الاختلاف" فيما بعد. يمكننا أن نطمئن المأسورين بعقدة الاضطهاد، سواءً أولئك الذين أسرتهم قصة استهداف النظام العربي لهم لأنهم جيل النصر المنشود، وأن الزمن قد أذن بخروج المخلّص الكبير، أو أولئك الذين يعتقدون أن بروميثيوس وضع شعلة النور والمعرفة في جيوبهم فقط، وأنهم لهذا السبب يخضعون لعذاب واستبعاد تاريخي، وقد جاء زمن هيركليس لتخليصهم من عذابات جبال البلقان كما في الأسطورة اليونانية الشهيرة. نطمئن الطرفين إلى أن الغد سيتيح لهم فرصاً ثمينة للتعبير عن الإحباط، والإحساس بالاضطهاد والإبعاد، واستعراض كل تلك المعارف الخارقة التي لا بأس من الاعتراف بأنهم يمتلكونها. كذلك: للاختلاف القانوني والصحّي والمنهجي، بالنسبة لأولئك الذين يحملون – بالفعل- مشاريع معرفية يسارية، أو ليبرالية، أو قومية، أو إسلامية على المستوى النظري، جديرة بالتقدير والدراسة وقادرة على أن تشكل بؤر جذب واستقطاب جماهيري ونخبوي. لا أحد يفكر باختطاف الثورة، فالثورة نفسها هي عملية تحرير لمختطفة. وهذه المختطفة المتعبة بحاجة إلى الراحة. قليلاً من الهدوء، عشان خاطر ربّنا، لكي تصدّق المختطفة أنكم قادِمون لتحريرها لا للقتال أمام بوابة زنزانتها. لن تخرج المختطفة من جحرها المخيف وهي ترى هذه الصورة: إعلام الحزب الحاكم يقول "ميليشيات جامعة الإيمان والفرقة المدرعة يعتدون على رجال الأمن ومؤيدين للرئيس". تتجاور هذه التفاهات جنباً إلى جنب مع صراخ غريب من قبل بعض أعضاء الثورة: ميليشيات الفرقة المدرعة والإخوان المسلمين يعتدون على النساء والشباب. ربما وجِد رجل عسكري من الفرقة المدرّعة، يعتقد أنه أصبح رسمياً غفير الثورة، دخل في مشادة مع ناشطة حقوقية أو سياسية تعتقد أنها سوسنة العصور الجديدة. لا أقلل من شأن أحد، وليس من حقّي، لكنّي أعتقد أن المشادات والمواجهات تكبُر حين يعتقد كل طرف أن الآخر لم يقدر "مكانته" كما ينبغي لها. وليس إهانة لأحد حين يُقال له: أنت نرجسي، تعبد ذاتك وتراكَ خلاصة العصور. أعلم جيّداً أن ما حدث للناشطات، بقيادة الأستاذة القديرة أروى عثمان، أمر مختلف تماماً، وقد حصلت على معلومات متناقضة من الطرفين كل يروي الحادثة على طريقته. لكن دعونا نتجاوز كل تلك الأمورالتي تحدث عادة في أي ثورة، ونردد مع أروى عُثمان: الله يحرق قلب علي عبد الله صالح. كان هذا تعليقها وهي تحاول أن تتجاوز كل ما تعرضت له بلا ضجيج ولا عك ولا لت.. الكبير كبير يا جماعة. دعونا نتذكر: سقط شهداء شجعان وتطاير دمهم على جدران الشوارع، أصغرهم أشجع وأشرف مليون مرّة من ياسين سعيد نعمان ومحمد قحطان. بينما يصرخ ثوريّون ناعِمون "زقونا، دهفونا"! في حياتي لم أسمع عن ثوري يصرخ في وسائل الإعلام أنه تعرض "للدهف" بينما هو يقوم بالثورة! ما هذا بحق الله، وبحق السماء! هل تتذكرون بركة الدم التي سالت أمام جامعة صنعاء؟ هل نسيتم "الرصاص المصبوب" الذي انهمر على شباب عدن العظماء؟ هل قتل كل أولئك البشر لكي يفسحوا لكم فرصة "للضجيج"؟ ما أقساكم! بحق الله، ثم بحق الثورة توقفوا، أو ارحلوا. لقد حصلت الناشطات الكريمات على سلسلة من الاعتذارات عبر منصة لجنة النظام. وكذلك تفهم قادة في الفرقة المدرّعة شكواهن ووعدوا بمعاقبة حازمة للمتورّطين. إذا لم يغير كل هذا من الأمر شيئاً فإن "الأمن القومي" بكل تأكيد هو من سيشكركم على هذه العملية الناجحة. لتتحقق – ويا للسخرية- تلك التهمة الساذجة عن تبعية الناشطات لهذا الجهاز. فمثلاً: منتدى "موف" للإعلاميات، طالب حكومة ودولة النظام اليمني (الذي يسعى الخصمان لإسقاطه) بالنزول لحماية هؤلاء الناشطات من متشددي الإصلاح والمنشقين عن الجيش في الفرقة المدرّعة!
مرة أخرى، لنتذكر: المعتصمون يقفون على الجبهة، ويجوز أن نقول بكل شجاعة: على خط النار. فلو أن خطة صالح في اغتيال علي محسن الأحمر نجحت إلى حد ما، لكان صالح قد دخل في الفقرة "ب" من خطته، وهي مهاجمة الفرقة المدرعة بالطيران، ثم انتشار الأمن المركزي والحرس الجمهوري في كل صنعاء، وهروب الناس على إيقاع طيران السوخوي والميغ 29. أرجو أن لا نردد مقولة شاب ليبي ساذج ظهر على وسائل الإعلام لكي يقول: لماذا يعتدي علينا القذافي ونحن لم نفعل سوى أننا خرجنا بصورة سلمية نطالب بإسقاط النظام فقط! ونسي أن "فقط" هذه هي كل الحكاية. المعتصمون في الساحات يريدون أن يدمّروا جهازاً ضخماً بكل ارتباطاته وخيوط تشعباته التي بناها على مدى ثلث قرن. من المناسب أن نتذكر أن ثلث قرن أكبر بمرّة ونصف من تلك الفترة الزمنية التي احتاجتها اليابان لكي تنهض من حطام ناغازاكي إلى "اليابان الأولى في العالم". تدمير هذا الجهاز الذي تحوّل إلى طبقة كلسية محيطة بجسد البلَد يعني التريث والتركيز الشديد، لأن نزعه تحت غطاء من الضجيج قد يحدث ثقوباً كبيرة في جسد البلد المحرّرة، ستنزف منها وسيدخل عبرها الريح لأزمنة طويلة في المستقبل. وهو ما يفرض من الناحية العملية: أن تقف الثورة على أطراف أصابعها، تستمع لدقات قلبها بعناية، وأن يمنحها الثوار هدوءاً ضرورياً لكي تنجز فعلها الجراحي العظيم، وتزيل هذا الوسخ بكل مرموزاته وأذرعه. الدوشة التي نسمعها لا تخدم هذه العمليّة، وهو ما يمنحنا الحق في أن نقول: إن من يهاجم أي فصيل في الثورة، الإصلاح أو الاشتراكي أو غيره، ولا يفتأ يصرخ ويثير الزوابع هو بالفعل: عميل حقيقي للأمن القومي وجماعة علي عبد الله صالح. فهو يخدم، في المحصلة النهائية، مشروع تبديد الثورة الذي يعكف عليه صالح بكل إصرار. هناك إصلاحيّون أشرار؟ طيب، يا سيدي خليك إنت الكبييير، وضحّي حبتين عشان ربنا يكرمك، وتحمّل شوية الأشرار "حتى تنجز الثورة مهمّتها". تُريد أن تقول أنك "تضحي" من خلال وقوع الاعتداء عليك؟ طيب يا سيدي خليك المناضل المجهول الذي يصنع مجداً في القبو، ولا يعرف ألمه أحد! أو: اعرض ألمَك في إطار أنك تعرضت لألم من قبل شخص ما، دون الحاجة للدراما التعبيرية التي تصور الأمر وكأن هنالك تخطيطاً ماكراً بتنسيق دقيق بين حسن البنّا وعلي محسن الأحمر. في الوقت ذاته: شوية ليبراليات شريرات، وشوية يسارين "غير متسامحين"؟ خليك أنت المتسامح الكبير، صاحب المشروع الأخلاق العابر لنوائب الدهر! يللا، وخلصونا. قتل الشباب العظيم لكي تعيش اليمن العظيمة، ومن حقهم عليكم أن تحترموا الطريقة التي ماتوا بها والقيم التي اشتروها بأرواحهم. استحوا شوية يا جماعة! الثورة ليست فسحة، ومافيش حاجة اسمها "الثورة دهفتني"! تعالوا نتذكر، بليز يعني، واحدة من نتائج الثورة: محاكمة علي عبد الله صالح وأبنائه في قضايا تصفيات جسدية كثيرة، والحكم عليهم بالإعدام شنقا، كما من المتوقع أن يحدث مع حسني مبارك في مصر. صالح يدرك إمكانية حدوث مثل هذا الأمر، وسيعمل على الحيلولة دون حدوثه. إنه متعلق بفناء الذرية، هل أنتم مستوعبون لهذه الملاحظة؟ الثورة تخوض هذه المعركة، وعلى أولئك الناعمين جدّاً، وأولئك الذين يعتقدون أن حقّهم على الملايين أن تعتذر لهم كل خمس دقائق أن يرتاحوا في بيوتهم ويتابعوا الثورة عبر قناة الجزيرة والحرّة والفيس بوك. مرة أخرى أنا لا أسخر من أحد، لكني أؤكّد أن الثورة لا تتيح مجالاً للمحاججات الصبيانية وألعاب العِيال. من حق الثورة أن تطلب من أعضائها أن يتجرّدوا عن وجدانهم شديد الحساسية ريثما تنجز المهمة الكبيرة، وأن يتركوا معاركهم المتخيّلة في غرفهم. الأمر يتعلق بمستقبلنا كلنا، بما يعنيه المستقبل: فرصة الحياة، فرصة الطمأنينة، فرصة المعيشة، فرصة الإبداع .. إلخ. ومن غير المسموح لأي أحد أن يدوشنا ويقلل من فرص نجاح "فرصة مستقبلنا" لمجرد أنه تعرض لأي قدر من الأذى، مهما بلغت درجته. تذكروا جيداً: ثمة شباب يمنيون أقدس مني ومنكم جميعاً أيها الأحياء الذين لم تموتوا في هذه الثورة .. ماتوا لكي نعيش أحراراً. ومن المؤكّد أنهم يشعرون الآن، في علوهم الأبدي، بخيبة الأمل، والخذلان العميق، لأننا تركنا دمهم يذهب وحيداً، مكسور القلب.