يجدر بنا ونحن نعيش ثورة بحجم الشعب ممتدة بامتداد الوطن أن نتطرق إلى ما تحدثه هذه الثورة من تغيرات اجتماعية كما السياسية سواء بسواء، ولأنها ليست ثورة نخبة معينة بل ثورة مجتمع فإن هذه المتغيرات ولا شك ستكون بحجم هذا المجتمع المتفاعل مع أحداث الثورة وخصوصا بؤرة المجتمع الثوري المتمثل في ساحات الاعتصام. فما نلاحظه من مظاهر مدنية راقية في ساحة الاعتصام يؤكد العمق الحضاري لليمنيين ويوضح الجانب المشرق للمجتمع اليمني، وقد رصدنا بعض هذه الملامح الحضارية التي منها: التعامل الراقي مع المرأة لعل من أبرز المظاهر الحضارية في الساحة هو التعامل الراقي مع المرأة والتقدير الواضح لدورها من قِبل الشباب في الساحة وذلك أبلغ رد على ما تفوه به الرئيس في خطاب يوم الجمعة في حق المرأة. فالمرأة لها دورها وموقعها في الساحة وعلى المنصة بل وحتى في المنتديات الثقافية المتعددة في ساحة الاعتصام والتي من أبرزها المنتدى الأكاديمي. فمشاركة المرأة تلقى ترحيبا واسعا حتى من الذين يعيشون في عمق المجتمع القبلي ذي الموروث المتحفظ على مشاركة المرأة في الحياة العامة، وكثيرا ما تقف المشاركات على المنصة ويطلقن الشعارات القوية التي يرددها الجميع بحماس أقوى، ولم أسمع مطلقا من يقول من الشباب: لو أن هذه الشعارات من فم رجل لكان أفضل. سلمية رغم وجود السلاح مظهر آخر من مظاهر المدنية الرقية في ساحات الحرية والتغيير ولعله المظهر الأبرز بل والأروع وهو سلمية الثورة رغم وجود السلاح ورغم محاولة الدفع بها نحو مربع العنف في أكثر من موقف فترك السلاح في البيوت والخروج بصدور عارية والإصرار على ذلك في مجتمع علاقته بالسلاح علاقة توأمة ويعتبر السلاح جزءا من زيه اليومي أذهل العالم وانتزع إعجاب المراقبين في الداخل والخارج وأحرج النظام وأسقط أحد رهاناته وأهم فزاعاته التي كان يحاول بها إطالة عمره الطويل أصلا، وما سمعناه من عبارات الثناء والإعجاب من مفكرين كبار أمثال الدكتور عزمي بشارة والمفكر فهمي هويدي وعبدالباري عطوان وغيرهم يدل على أن الصورة الحقيقية لحضارة ومدنية المجتمع اليمني قد رآها العالم أجمع وها هي الثورة تمضي في شهرها الثالث لتكون الأطول عمرا بين الثورات العربية الحديثة والأصابع بعيدة تماما عن الزناد ويدل ذلك على أن سلمية الثورة هي نتاج قناعة وخُلُق وليس نتيجة تعبئة آنية، ولا ننكر أن للتوعية أثرها ودورها في ذلك ولكن هذه التوعية وافقت خلقا أصيلا وجذورا حضارية ضاربة في أعماق التاريخ، وقد عبر الشاعر أحمد المنيعي _ وهو أحد أبناء محافظة مأرب – عن ذلك بقوله: المجتمع القبلي يحب السلم ولا يرغب في التعامل بالسلاح ولكنه يضطر للتعامل به لغياب العدل والقانون ولو وجد العدل لترك السلاح وهو اليوم يثبت أنه ليس عدوانيا ويميل إلى السلم ولكن الدولة كانت أحد أهم أسباب حمله السلاح. القبول بالآخر وهذا رهان آخر من رهانات السلطة يسقط وفزَّاعة من فزاعاتها تتهاوى وهي الاختلاف والفرقة بين مكونات الثورة الشعبية الشبابية ففي الساحة لا تجد من يسألك عن انتمائك أو فكرك أو قناعتك لأن الجميع وحَّدتهم قناعة واحدة وهي استحالة الصبر على سوء هذا النظام أكثر من ذلك، والقبول بالآخر ثقافة حميدة في ساحات الثورة وتدل على نضح حقيقي ووعي مستنير فلا أحد هنا يدَّعي أنه هو لب الثورة وأن الآخرين ليسوا سوى القشور، وكل الأدبيات الصادرة عن مكونات الثورة تدل على القبول بالآخر وتحث على تجاوز أي خلاف أو اختلاف في الرأي باستثناء ما يصدر عن بعض من يصفونهم في الساحة بالمندسين الذين أُرسلوا لهدف تفريق الصف وتشويه صورته الجمالية المتناغمة‘ وهذه الأصوات الشاذة تزيد الساحة تماسكا وقوة وشعورا بضرورة القبول بالآخر بل هي بمثابة اللقاح الذي يعطي جسد الثورة مناعة ضد أي محاولة لتمزيق وحدته وشغله عن هدفه. ومما تجدر الإشارة إليه فيما يخص القبول بالآخر هو اختفاء الفوارق الطبقية السلبية فالكل هنا سواء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء انصهروا في بوتقة واحدة وجمعهم مطلب واحد وآخى بينهم إحساس مشترك أصلهم الثورة والثورة فقط. وضاح الروم – أحد المعتصمين – يبدي انبهاره بهذا التناغم بقوله: حتى الفوارق الثقافية والمستوى التعليمي المتفاوت بين المتواجدين في الساحة لم يفرض نفسه عليهم فأنت تجد شخصا أميَّا أو شبه أميّ وهو يهتف بالشعارات ويهتف وراءه المثقف والأستاذ الجامعي دونما مشكلة في ذلك وذلك شيء رائع. الترتيب والنظافة بمجرد مرورك بساحة الاعتصام التي تضم عشرات الآلاف من المعتصمين تدرك مدى ذوق هؤلاء المعتصمين ومدنيتهم من خلال الترتيب والنظافة العامة في الساحة فلا أحد في ساحات الثورة يترفع عن جمع القمامة ووضعها في الأماكن المخصصة لها فتجد الطبيب والأكاديمي والطالب والعامل كلهم يقوم بواجبه في تنظيف الساحة ورسم الثورة اللائقة والانطباع الجميل في ذهن كل من زار الساحة، وقد سمعت الكثيرين من غير المعتصمين يبدون إعجابهم وثناءهم لنظافة الساحة وهي تكتظ بكل أولئك الثوَّار. أحمد القليصي – أحد المغتربين يبدي إعجابه بما شاهده في الساحة بقوله: لو أن كل معتصم رمى بورقة لكوَّنوا هرما من القمامة ولكن ما نراه يجعلنا نفتخر ببلدنا أينما ذهبنا. الجار قبل الدار ومن المظاهر الحضارية في الساحة حرص الشباب على عدم مضايقة أصحاب المحلات والبيوت المجاورة للساحة فالخيام لا تُنصب أمام المحلات ومداخل البيوت وحتى التي توضع في مكان يشعر صاحب المحل أنه يشكل مضايقة له يتم رفعها فورا وبدافع ذاتي من أصحاب الخيمة دون الحاجة إلى توجيه من أحد وذلك يعكس الذوق العام الذي يتمتع به هؤلاء الشباب‘ وقد سألت أحد أصحاب المحلات عن انطباعه عن تعامل الشباب المعتصمين معهم فأجاب: ما نسمعه من بعض وسائل الإعلام عن تضررنا من الاعتصام لا أساس له من الصحة بل بالعكس من ذلك نحن مستفيدون من تجمع كل هؤلاء الشباب فنحن نبيع أضعاف ما كنا نبيعه في الأيام السابقة، ثم ضحك قائلا: نتمنى استمرار الاعتصامات لمدة سنتين. الانضباط وعدم التدافع مظهر جميل وارقٍ نفتقده أحيانا خارج الساحة وهو الانضباط والالتزام بالدور، وتجد ذلك جليا في أماكن الازدحام مثل الحمامات التي لا تخلو من الازدحام الذي تفرضه كثرة العدد لكنه ازدحام منظم لا أثر فيه للتدافع أو التذمر بل أن رو ح الإيثار هي السائدة، وذلك يشعرك بمدى الوُد الذي يعيشه هؤلاء المعتصمون، ومما ينتزع الإعجاب الترتيب التلقائي عند العودة من المسيرات المليونية فالكل يعود للساحة من مدخل واحد ويخضع الجميع للتفتيش حرصا على سلامة الاعتصام وأمنه ولكن ذلك يتم بسلاسة مدهشة وتعاون رائع من الجميع. الكل أمام الإجراءات سواء والجدير بالذكر هنا أن شعور هذا المجتمع الثوري بالمساواة وعدم التمييز يجعله مطمئنا لكل الإجراءات التي تتم في الساحة فيتعامل معها بإيجابية وتقدير وتعاون ابتداء من الوقوف للتفتيش من قِبل لجان النظام عند كل دخول إلى الساحة مهما كانت شخصية الواصل فلا استثناء هنا ولا تمييز، وقد علَّق أحد الشباب على ذلك بقوله: لو أنني أرى غيري يدخل إلى الساحة دون تفتيش لاعترضت على ذلك وشعرت والإهانة ولكن أرى الشيخ الوقور والرجل المُهاب وحتى المرأة التي تخضع لنفس الإجراءات من قِبل اللجان النسائية فأشعر بالاطمئنان وأرفع يدي مبتسما وأترك للجان النظام المجال لأداء مهامهم. وكما يتساوى الجميع في الإجراءات يتساوون في التكاليف والواجبات أيضا فالكل ملزم بالخدمة وحفظ الأمن وتنظيف المكان وغير ذلك مما يستلزمه البقاء في الساحة ولا استثناء في ذلك أيضا، وهذا الشعور بالعدل يجعل الجميع مندفعين للقيام بواجباتهم دون الحاجة للوعظ والتذكير. إذن نحن أمام مجتمع مدني راقٍ ستنبثق منه دولة مدنية جديدة ترسم ملامح غد أفضل يعيد للسعيدة اسمها وألقها وموقعها الذي ينبغي أن تكون فيه.