كانت الفضائيات الإخبارية ضيفاً خفيف الظل على أوقاتنا و قلوبنا أيضاً، و اليوم اختلف الأمر بصورة لم تعد تطاق، حتى أن كاتب السطور يفكر في إطلاق حملة شعبية –بعد الثورة- تطالب هذه القنوات بالرحيل أسوة بالرؤساء الذين جثموا على أنفاس شعوبهم بسياسات خاطئة، فلاهم رحموها و لا هم تركوها تبحث عن رحمة!. إلى قبل ثورات الشعوب التي عشناها و نعيشها كان أغلب الناس يفرون من الأحاديث السياسية فرار أحدهم من درب شائك أو خطر محقَق، حتى أخبرني أحد المحبين بحبه لي في كل شيء إلا في انغماسي في السياسة، فقلت له مبتسماً بمرارة: إنني يا عزيزي منغمس في سر مأساتنا!، وهل واقعنا المرير إلا حصاد السياسة والساسة، فنحن جميعاً في بحر السياسة شئنا أم أبينا، و من يهرب من السياسة إنما يهرب من الواقع، و من منا يستطيع الانعتاق من واقعه، فقد ضربتْ السياسة بجذورها في كل ناحية من حياتنا، و لأننا لا نجيد فَهم السياسة و التعامل معها بوعيٍ صرنا من ضحاياها! كان للبعض منا مواقف غير واقعية مع واقعنا المعاش تشكل في نظرهم حلولاً ممكنة و مجدية و هي أن نغلق أبوابنا على أنفسنا تاركين للسياسة طحن من يدخل في معتركها أو يقترب من تفاعلاتها المؤسفة، وكان هؤلاء يتجاهلون أن السياسة لم تعد تستخدم الأبواب فقط للوصول إلى ضحاياها، بل صارت بحكم فسادها المتسلط كالهواء، حتى الذين فروا خارج الوطن يعانون من الربو السياسي الذي يرهق أعمارهم و يحرق جهودهم!. أرأيت حاجتك الأساسية من الطعام والمسكن و لوازمك اليومية من الخدمات الاستهلاكية كيف تشكل كابوساً مرعباً لا ينفك عنك مهما حاولت الفكاك منه أو الانعزال عنه!، هذه الملاحقة القبيحة و الشرسة هي السياسة التي أغرقتنا في بحرها، و الإشكال فينا حين لا نجيد السباحة!! سباحتنا تتمثل في أن نكون جزءاً من الحل: بتفاعلنا الإيجابي مع كل محاولة سياسة صالحة، و إن كان النجاح صعباً فهو خير من الفرار غير المجدي، حتى لو كان الفرار السلبي خير من تأييد السياسة الفاسدة و مخرجاتها الكارثية، لأنك حتماً ستكون من ضحاياها، و بالتالي «يا هارب من السياسة يا ملاقيها»! هذا حديث ما قبل الثورة، أما اليوم فقد تغير الأمر لدرجة أن صار التفاعل السياسي هو المسيطر على مساحة تفكير الناس و نقاشاتهم، وسط استنكار لمن يتغابى في طرق أحاديث أخرى أو التعبير عن اهتمامات خارج الموسم، «موسم الهجرة إلى السياسة» على غرار «موسم الهجرة للشمال» للراحل الطيب صالح الروائي السوادني، و بدا أن محاولات تجهيل و تضليل الشعب بائت جميعها بالفشل، حتى تلك التي كانت ترتدي مسوح الواعظين، و تبرز جوانب التدين البعيدة عن الواقع و ما يعتمل فيه، مع ما حظيت به من احتفاء رسمي خلف مكبرات الصوت في المساجد و أمام الكاميرات في الفضائيات الرسمية. هذه الحالة من الوعي الذي يتشكل اليوم تبشر بوعي قادم أكثر أهمية و مصلحة للوطن، إذا كان كل مواطن سيستشعر دوره الوطني في المشهد السياسي كحاكم و كمعارض، فلن يفسد الأول و لن يسكت الثاني، حالة من الصحوة السياسية التي لا تسمح بالنوم، إذا كان الناس يتوجهون إلى مضاجعهم بتحية «تصبحون على سياسة» كما يفعلون اليوم في الساحات و أمام الشاشات!. إضاءة أخيرة و مهمة للمفكر محمد عابد الجابري يقول فيها: «كما يرجع منشأ الحكم إلى اختيار الشعب ورضاه يرجع إليه أيضا النظر فيما إذا كان الحاكم يقوم بالمهمة المنوطة به أم أنه يتقاعس أو يتجاوز ويعسف. فإذا طغى الحاكم فللشعب كامل الحق في مقاومة طغيانه، لأن الشعب هو الذي نصَّبه. ولا معنى للقول (...) إن إعطاء الشعب الحق في المقاومة والثورة يؤدي إلى الفوضى! كلا، إن الشعب عاقل، وكيف لا يكون عاقلا وهو مكون من أفراد يتمتعون بالعقل. أما الجماهير فهي ليست مجبولة على الفوضى كما يدعي البعض، بل بالعكس هي تفضل في معظم الأحوال الشكوى على المقاومة لرفع الظلم عنها. ولا يلجأ الشعب إلى المقاومة إلا عندما يقتنع بأن الحكام والقضاة ماضون في غيهم لا يبالون بشكواه! في هذه الحالة يستنتج العقل أن لا سبيل لرفع ظلم الحكام إلا المقاومة. «وليس لأحد أن يلوم الشعوب على عواطفها التي يمليها عليها كونها مخلوقات عاقلة».