النصر والظفر على العدو شيء تحبه النفوس وتميل إليه وتطرب له ، وتنشرح له الصدور وتستبشر به وقد أبان الله ذلك في قوله الكريم (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) كما جبلت النفس البشرية في المقابل على كراهية الانكسار والهزيمة والاستكانة والخضوع لعدوها ، وهي مصيبة تتجلى في الجبن والقهر والغلبة والإذلال المصاحب لذلك ، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك كله في قوله (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) ولكل من النصر والهزيمة أسبابه وشروطه ومقدماته ونتائجه.. ومما يجب على المسلم أن يعتقده ويوقن به هو أن النصر من عند الله فمنه وحده يطلب ( وما النصر إلا من عند الله ) هو الذي يهبه ويمنحه ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) ومما يجب فهمه وإدراكه أن الهزيمة والخذلان عقوبة يعاقب الله بها المخالفين لسننه الشرعية والكونية ( وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) وقال عليه الصلاة والسلام ( وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ) وإذا أراد الله نصر قوم هيأ لهم الأسباب والظروف وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض، وألهمهم تقواهم وتزكية نفوسهم وصلاح أمورهم ، وزودهم بالسكينة والطمأنينة والثقة حتى يغشاهم النعاس في مواقع الخوف والمخاطر ، أمنة من الله لهم ورحمة بهم ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه.. ) وحين يريد الله نصر جنده فلا مكان للحسابات المادية من حيث الكثرة والقلة والعدة والعتاد ف ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) فالمتاح من الأسباب والإمكانات المادية البسيطة القليلة يكون النصر بسببها لأن الله تعالى هو الناصر وحده على الحقيقة وما البشر إلا أستار لأقداره وأفعاله تعالى ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) وحين يريد الله النصر لعباده يجعل من الضعف قوة ومن الاستكانة والخضوع عزاً ومن الدنو علواً ، وكل ذلك مرتبط بمشيئة الله وتقديره ، لا يتقدم النصر لرغبة أحد وعجلته ولا يتأخر إذا توفرت أسبابه وانتفت موانعه لكراهية أحد أو اعتراضه على حصوله فالبشر لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضراً و لاموتاً ولا حياة ولا نشوراً ، إنهم أضعف وأعجز وأذل من ذلك وأحقر. إن أقدار الله في النصر والهزيمة تمضي وفق ما أراده الله فلا تقديم لما أخره ولا تأخير لما قدمه ، كل شيء عنده بأجل وكل صغير وكبير مستطر ، غير أن الإنسان خلق هلوعا ، متسرعا عجولا ً، يريد أن يرى كل شيء في زمانه ويستعجل الأمر قبل أوانه.. وقد يعاقبه الله بتأخره أو حرمانه. وحين يبطئ النصر ويطول البلاء ويضعف الرجاء ، ويدب اليأس حتى في صدور الأنبياء والأتقياء ويضجوا إلى ربهم بالضراعة والدعاء ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) إنه قريب يأتي بغير مقدمات وفي لحظات ، وإنما يؤخره الله لحكمة يعلمها لأنه سبحانه يعلم ولا نعلم وهو علام الغيوب ومن الحكم الظاهرة في تأخر النصر هو أن الله تعالى جعل للنصر ثمناً وضريبة لا بد أن يؤديها المؤمنون من أنفسهم وأموالهم ، وأن يبذلوا ما في وسعهم من الجهد والطاقة في مواجهة الباطل ومقاومته ومنازلته وحين يفعلون ذلك يكونون من النصر قاب قوسين أو أدنى.. ولكنهم إن قصروا وأهملوا أو سكنوا وقعدوا فإنهم غير مؤهلين لنصر الله ، ثم إن النصر إذا جاء سهلا ً دون جهد أو مشقة فإنه يذهب سريعا ً لأن من يحصل على النصر بدون عناء لا يبذل شيئاً من نفسه وماله للحفاظ عليه وإنما يفرط فيه ويضيعه ويتخلى عنه عند أول فتنة أو محنة تواجهه. ومن الحكمة في تأخر النصر لكي تتهيء النفوس وتتربى وتهذب وتصقل وذلك لا يتم إلا من خلال ميادين المعاناة والكفاح.. إن النفوس لا تقوى وتشتد ولا تتمرس على الصبر والمصابرة إلا من خلال النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف ، والتقدم والتقهقر وما يصحب ذلك من الأمل والألم ومن الفرح والغم ومن الاطمئنان والقلق ، ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة ، وأمنيات النجاح والنصر والخوف من الفشل والهزيمة. وقد يتأخر النصر لأن الأمة لم تنضج بعد وتتخلص من عوامل الضعف العالقة بها إما في علمها وعملها أو في أخلاقها وسلوكها ومعاملاتها. وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة قناعة بالرجوع إلى الله وضرورة الاستكانة والضراعة إليه ، وهي تعاني وتتألم وتبذل فتتيقن عندئذ أن النصر من عند الله وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، وهذه من الحكم العظيمة في تأخر النصر التي يستخرج الله بها عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون ، وفي حال ظفرهم ونصرهم أو في انكسارهم وهزيمتهم ، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون ويكرهون ، فهم عبيده حقا ً وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية فقط. ومن الحكم في تأخر النصر أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركونا ً إلى العاجلة ، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة ، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته ، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه ، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وكإجراء عملية جراحية لاستخراج الداء وتلك ضريبة الصحة والعافية. وقد يبطئ النصر لأن الأمة لم تتجرد لله في عملها وكفاحها وبذلها وتضحيتها وإنما لغايات أخرى دنيوية من المغانم والشهرة أو الرياء والسمعة. وقد يبطئ النصر لأن الشر والباطل الذي تكافحه الأمة لم ينكشف زيفه للناس تماما ً ، ولم يطلعوا على فضاعته وبشاعته ، فقد يحتاجون إلى نوع من التمحيص والابتلاء حتى تظهر الحقائق المخبوءة وربما صحت الأجساد بالعلل ، فلو تم النصر قبل ظهور وجه الباطل القبيح فقد يجد له أنصاراً من السذج والمغفلين أو المخدوعين فيه ممن لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الثورة في ساحاتها فلا بد إذا ً من الابتلاء والتمحيص حتى يتضح الحق ويصبح مطلبا ً للجماهير ولتستبين سبيل المجرمين ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).