ربما القائل بالمقدس مصيب والقائل بالمدنس كذلك مصيب، فلكل أصلٌ في الواقع والمنطق والشعور، أليس القائل بالمقدس ينطلق من ذاكرة ما قبل الوحدة وما كان عليه الوضع في المناطق الوسطى من الشطر الشمالي حينئذ، وكيف كانت التصفيات بين الأخوة في الشطر الجنوبي سنة حتمية لا مناص منها، وكيف كانت الحدود المصطنعة تشتعل من فينة إلى أخرى؟!. وكذلك القائل بالمدنس، فليس هيناً ما زحف على الجنوب من عادات وأعراف وعصبيات قبلية ونهب لثروات وإقصاء وتهميش يولد الانزعاج والاشمئزاز والحنين إلى الماضي. لقد شهد الجنوب من العبث والممارسات الخاطئة ما يكفي وزيادة لأن يكفر أبناؤه بالوحدة والهوية وبكل شيء له صلة باسم الوحدة. نعم، لكلٍ نسبةٌ من الصحة إلا أنهما يتجاهلان حقيقة ما يجري، فهي أحداث يقينية ومتغيرات سياسية واجتماعية وفكرية تجرَّع سمومها كل أبناء اليمن ليس في الجنوب وحده بل وفي الشمال كذلك، وفي كل شبر من أرض الوطن الباحث عن الأمن والاستقرار وسبل العيش الكريم وأمل الحياة بدون منغصات والآم. لقد كانت الوحدة في يومٍ ما بالنسبة للشعب قدراً محتوماً، وقد تهيأت لها أسباب وظروف في لحظة زمنية من القرن العشرين لم تتهيأ لأجيال خلت من قبل، حيث كانت الصورة قبل ذلك تعكس علامات الجهل والتوجس والنفور والانتقام، وهو ما لم يشعرْ به كثيرٌ من جيل الوحدة اليوم، ولعله أحد مبررات أنصار المقدس الذين يرون في تصفح تاريخ اليمن القريب والبعيد وجوباً لبيان رؤية أن أنصع حقبة تاريخية زمنية عاشها الإنسان اليمني ترجع إلى فترة الوحدة المعاصرة، حيث وحدة الأرض والهوية والأمن والاستقرار والتآلف المقبول، ولذلك عظموا من شأنها ونزهوها من العيوب والأخطاء، حتى غدت بالنسبة لهم وحياً إلهياً لا يكفر به إلا زنديق ومشكوك في إيمانه وجيناته. ولعل قراءة كتاب مثل "صفحات مجهولة من تاريخ اليمن" للقاضي حسين بن أحمد السياغي يخدم أنصار هذه الفكرة، فالكتاب يرصد تاريخ ما قبل مائة وخمسين سنة من الآن، وما حل بالإنسان اليمني من معاناة وفوضى وكوارث لا يصدقها العقل، مكنت كل قرية من قرى صنعاء كشعوب وحدة ودار سلم من تشكيل كيان خاص يشبه الدولة المستقلة تحكمها العصبية القبلية وتحالف عصابات النهب والقتل. وهكذا كان الحال في كل مدينة ومخلاف وقبيلة على طول اليمن وعرضه. وهو ما يرفع من رصيد الوحدة الحالية وما أنتج خلالها من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية مسكونة بتخيلات وأحلام أثرت في التكوين النفسي والذهني، لنرى طائفة تؤذن بالوحدة؛ باعتبارها الأجمل والأسمى والأقدس. وفي الطرف المقابل المؤمن بالمدنس نرى أن قوى وجهات خارجية قرأت ما يسكن فكر وشعور أبناء الجنوب الجمعي من أوجاع وضيق وتذمر من التجاوزات فسعت إلى التهويل والترهيب فكبرت الصورة ووسعت مشاهد الألم، فإذا بكل شيء مرتبط بالشمال همجي ومحتل ومغتصب، وأي حديث عن الوحدة هو حديث أفك وشذوذ. لقد تصاعدت حدة التخاصم والتجادل بين أنصار فكرتي المقدس والمدنس، ليصلوا بالوطن إلى حافة السقوط والانهيار، وليس في استطاعة أحد اليوم التنبؤ بعاقبة هذا الجدل العقيم، فالوحدة لا هي مقدسة ولا هي مدنسة، وإنما هي نتاج قناعات وخيارات ديمقراطية، إذا ثبت أن غالبية أبناء الجنوب أو الشمال لا تتوافر لهم الرغبة في البقاء تحت سقف الوحدة فليكن لهم ما شاءوا، مع اشتراط الحفاظ على الود والإخاء وإزالة ما قد يسبب من توترات في المستقبل؛ لأن سنة الحروب والفوضى تخلق من الأشرار أكثر مما تزيل، وتوفر بيئة خصبة ومواتية لتفريخ العنف والدمار، فحوافر خيل القبيلة ما تزال تثير غبار العصبية في مساحة كبيرة من اليمن، ولعنةُ الثأرِ ما تزال أيضاً تُرددُ في كل سهلٍ ووادٍ وجبل، ومخالب الجهل والطائفية ما تزال شرهةً في نهش الألفة والتقارب والتراحم، وتحاول جعل النفوس والعقول خاوية على عروشها. كل ذلك يطل برأسه في ظل انتشار السلاح بشكل مرعب، وسهولة الحصول عليه، ووجود مرجعية متأهبة لمساندة كل طائفة وفرقة، زد على ذلك أن تركيبة المجتمع اليمني له خصوصية يعرفها الجميع؛ ولذا يجب الترفع عن المغالطة والنخر في النسيج الاجتماعي، كما يجب على الجميع التكاتف والعمل من أجل الحفاظ على الوحدة إن أمكن، وإلا فليحافظوا على الوطن من الانزلاق إلى حرب أهليه ستفضي حتماً إلى وجود دويلات وسلطنات متعددة. إن الوحدة اليمنية لم تعد ملاذا آمناً يفر إليه الناس من العنف والدمار الذي يكتوون بناره ليل نهار، وعلى أصحاب نظرية المقدس أن يدركوا هذه الحقيقة، كما أنها في الوقت نفسه ليست مدنسة حتى نحملها سوءاتنا وقبحنا، وفي الإمكان أن تكون إطاراً ناجعاً لإزالة أسباب التوتر والقلق والغضب، وما يحيق بالوطن من عثرات تعيق أو تمنع حدوث التقارب والاستقرار والحوار بهدوء ومنطق بعيداً عن التسويف أو اختلاق الأعذار، والارتهان للخارج ونفث سموم الحقد وتصفية الحسابات على حساب تمزق هوية بلد حضاري عريق. إن الصمت أو غض الطرف عن استفحال الجدل الحالي بين المقدس والمدنس أمرٌ بالغ الخطورة، فثمة إشارات تؤكد أن جمرات خبيثة يتصاعد دخانها وفق خطة مدروسة وموجهة، تستهدف صراحةً اليمن أرضاً وإنساناً، وبناءً عليه ينبغي على أصحاب القرار أن يعوا اللعبة، وأن يتعاملوا معها بحكمةٍ ومسؤولية، وأن يدرسوا كل خطوة يقدمون عليها، حتى لا تقع أقدامهم ومن بعدها أقدام الوطن في حفرة من نار يصعب الخروج منها، كما يجب على كافة النخب المشكلة للمجتمع اليمني وعلى رأسهم علماء الدين وأساتذة الجامعات والمثقفين أن يسخروا كل طاقاتهم من أجل نشر الوعي والتعبئة الفكرية والسياسية والمجتمعية لإنقاذ الوطن، والترفع عن الحقد السياسي البغيض. وكذلك على أنصار فكرتي المقدس والمدنس أن يدركوا جميعاً أن الثروة الحقيقية ليست شيئاً مادياً، وإنما هي الأمان والاستقرار والتآلف والتكاتف وهذا لا يتحقق إلا في ظل التناغم والانسجام والقبول بالآخر.