الوطنية ليست كلمات لا معنى لها، وإنما هي خدمة، كما يقول: بومارشيه. ولكن ما حيلة المغلوب على أمره إلا أن يهذي بالكلمات ويلفت الانتباه إلى ما يلوث الحياة، ويثير الحزن والبكاء والخوف، والتحذير مما تحمله الأيام والأحداث من إشكاليات تقود المجتمع أو الدولة إلى العنف والتطرف والموت. إن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا، ولذا لا خير فينا إن صمتنا أو حولنا ما نكتبه إلى نفاق أو تزلف أو تزكية للحاكم أو الجماعة أو الحزب الذي ندين بولائه، وكذلك إن هجرنا مناقشة قضايا الوطن ومشاكله وهمومه وآلامه. خاصة وأننا نشاهد هذا الوطن يتردى من شاهق، بسب أخطاء الساسة وغبائهم وتفاهاتهم الظاهرة من الصراعات والمناكفات السياسة الحادة، ومحاولة الاستفراد بالقرار السياسي، أو تجييره لصالح جماعة أو حزب ما، وعدم الإيمان بالشراكة. إنه يجب الاعتراف، بأن اللحظة الراهنة التي يعيشها اليمن اليوم ليست هينة، فهي تنذر بكوارث جمة، بسبب عدم وجود دولة تتحمل مسئوليتها وتمارس دورها في الواقع، وعدم وجود جيش وطني فعلي مستقل تتوافر له كافة الصلاحيات، ويطمئن إليه الشعب، ويعول عليه في إنقاذ الوطن في لحظة الانزلاق إلى الهاوية. بل إن الأدهى والأخطر من ذلك كله، عدم توافر الإرادة الصادقة للانتقال بالوطن من مربع العنف والفوضى واللا دولة إلى مربع الأمن والاستقرار والدولة...وكل ما نشاهده من مواقف هزلية، يدل فقط على الغباء والبلادة والفجور في الخصومة، والاستعداد للانتقام وجر الوطن إلى الحروب الأهلية. وهذا بكل تأكيد لا يبشر ببناء دولة، أو يساعد على الخروج مما تعانيه من أزمات وحروب .. إن ثمة علامات متشابهات بين ما حدث في العراق قبل عقد من الزمن ويحدث اليوم في اليمن. ويخطئ من يقول أن اليمن غير العراق، أو أنه لا علاقة بين ما يحدث هنا وهناك. فما حدث في العراق بدأ بسقوط الدولة، وتمكن بعض الجماعات الدينية الشيعية المحسوبة على المشروع الإيراني من بلوغ السلطة، والاستحواذ على الثروة والجيش، وهو ما أدى إلى فقدان الثقة بين السنة والشيعة، وعدم تعاونهم في حكم البلاد. وبالتالي أخذ كل طرف يستعدي الطرف الآخر، ويتربص به ويحرض ضده. وكان المالكي فقط يحكم المنطقة الخضراء، وكانت الدولة غائبة عن وسط العراق وأطرافه الشمالية، حيث الكثافة السكانية للسنة، حيث كانوا يعدون العدة بصمت، وبإيعاز ودعم وتشجيع من أطراف عربية وإقليمية ودولية. انتهت العملية بوجود ظاهرة داعش، التي ولدت وترعرعت وكبرت في ظل غياب الدولة، حتى سيطرت على مساحة شاسعة من العراق وسوريا وأعلنت دولة الخلافة الإسلامية. ما يحدث في اليمن، متشابه جداً بما حدث في العراق: سقوط الدولة، وتمزق الجيش، وتمكن جماعة أنصار الله الدينية الشيعية المحسوبة على إيران من بسط نفوذها في صنعاء، والسيطرة على الوضع بقوة السلاح، وتمددها إلى معظم المحافظات الشمالية. نعم، حتى الآن ما زالت الجماعة تدعو إلى الشراكة إلا أن النوايا لدى جميع الأطراف غير سليمة، والثقة منزوعة، والرغبة غير متوافرة في تقديم التنازلات من الجميع، كما يقول لنا الواقع. كما إن غياب الدولة في العراق عن المحافظات التي تسيطر عليها داعش، بالإضافة إلى التركيبية المذهبية والثقافية، يتطابق كلياً مع ظروف غياب الدولة عن المحافظات التالية في اليمن: (حضرموت، وشبوة، وأبين، والبيضاء، وتعز، وإب). وكذا تطابق التركيبة المذهبية. الأمر الذي ينذر بتكرار تجربة العراق في اليمن، وها نحن بدأنا نحصد كل يوم العشرات من القتلى بسبب العبوات الناسفة والسيارات المفخخة. ومن هنا، فإننا ندق ناقوس الخطر، ونحذر من أن الشعب على موعد مع مزيد من الدماء والمعاناة. وأن اليمن يسير على خطى العراق، وما لحق به من موت وخراب ونزوح وفرار إلى الخارج، سيلحق حتماً باليمن. خاصة وأن قوى داخلية وخارجية لن تسمح بسيطرة حركة أنصار الله على الحكم في اليمن، ولديها الرغبة والاستعداد لدعم القاعدة وتمكينها حتى تصبح قوة كبيرة كقوة داعش في العراق وسوريا، ولا أستبعد سقوط أكثر من محافظة قريباً في يد هذه القوة الداعشية الجديدة، لتكون مساحة آمنة للدعم والمدد والتدريب ...بالإضافة إلى أن المشاريع المتصارعة في العراق، هي نفسها المشاريع التي تتصارع في اليمن. بل إن اليمن بالنسبة لبعض المشاريع أشد أهمية وأولى من العراق، ولذلك لن تتوانى في ضخ المليارات من الدولارات لهزيمة المشاريع الأخرى. وبناء عليه، فإن من مصلحة الوطن الاستفادة من تجربة العراق، وعلى مختلق القوى السياسية المتصارعة اليوم إدراك خطورة الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وعدم إبداء الحرص على الاستفراد بالحكم، أو فرض القرار أو الإرادة أو الوجود بالقوة. كما أن من مصلحة الجميع المشاركة في بناء الدولة العادلة على وفق الشراكة والديمقراطية، فليس في إمكان أحد بمفردة الحكم بالغصب لفترة طويلة مطلقاً.