عقود مضت ، ولم تمض أنت ، يخنقك الدهر بيديه وقدميه ، ويعشش الفقر فوق رأسك ، ويطعم البؤس صغاره ألماً على كتفيك.. تقهقه الفرصة ، ساخرة من محاولاتك اليائسة للإمساك بذيلها ، كل مرة ، وتقول بلكنة تهكم نافذة: أنا لست لك..! وتبتعد أكثر وأكثر ، بينما تلتف بمجون حول خصرها الفاتن ذراع مألوفة ، لرجل نافذ ومألوف.! لم تكن مشكلتك يوماً مع شكل النظام ، ملكي أم جمهوري ، أو مع شكل الدين ، زيدي أم شافعي ، أو حتى مع أسماء قيادات الأحزاب وألقاب الصحابة ووجوه الحكومات المتعاقبة بلا ملل.. كانت مشكلتك دائماً وما تزال مع شكل خذلان الحياة ، في وطن ، يعانق بلا كلل غياب الدولة وتفاصيل شكل اليوم الكئيب..! ذات يوم ، وأنت على مشارف المغيب ، يعلو فجأة ضجيج ثوري في الشارع القريب ، (الشعب يريد إسقاط النظام) ، وسرعان ما تصبح أنت جزء مشروع من الضجيج والحلم والأمل الأخير ، لكن اللحظة لا تجيد الابتسام الطويل ، إذ ينفض الجمع ، ويسقط أي شيء وكل شيء إلا ما كان ينبغي له أن يسقط.. يفترش الأنذال كفن الشهداء وضمادات الجرحى.. تذهب سيدة الخيام لاستلام جائزة السلام ، ويذهب لصوص الدين والوطن والثورة ، لاقتسام حقائبهم.. وتذهب أنت وحيداً كثائر أبله ، يعانق خيانة جيفارا ، في زاويا عتمة البيت ، بلا إجابات وبلا ثورة.. تحشو مسدسك برصاصة الخذلان ، وتوجهه صوب قلبك المثقوب ورأسك المقلوب ، وقبل أن تضغط على الزناد الأخير ، يعود الضجيج مجدداً ، ويعلو هذه المرة من خيام الصمود على أرض ساحة كانت مألوفة ( لا للجرعة ، لا للفساد ، لا للأوغاد) ، وسرعان ما تصبح أنت جزء مشروع من الضجيج والحلم والأمل الأخير..! لم تكن مشكلتك يوماً في أنك مشروع سابق لذاكرة عنصرية أو طائفية أو جهوية ، بل في كونك توقيع حاضر لمواطن لم ير الوطن إلا في جيوب كبار اللصوص ، وجمهوري لم يعرف الجمهورية ، إلا دامعاً تحت القهر والعلم والنشيد ، ومثقفاً لا يحيا الثقافة إلا في حويصلة طير مهاجر على صفحات الكتب.. الثورة مستمرة.. ولا بد لها أن تستمر ، ففي وطن غادره العدل ، وهجرته العدالة ، وساسته النذالة ، الجميع (مهمشون) مع الفارق في التوقيت ودرجة تفتيح اللقب أو البشرة..! [email protected]