لم تكن السعودية لتقود تحالفاً إقليمياً عسكرياً في اليمن لو أن المقاربات السياسية كانت كافية لرد الخطر اليمني عن أبواب المجموعة الخليجية، ولو أن حوار الداخل أسس لدولة تؤمّن الاستقرار لليمنيين وتقيم يمناً لا يهدد الجوار. لكن الحوثيين، وهم «أنصار الله»، وضعوا زحفهم من صعدة حتى شواطئ الجنوب في إطار «جهاد» يتوعد باختراق الحدود نحو شبه الجزيرة العربية. وفي ذلك تهديد له نكهة إيرانية مباشرة لا يمكن العواصم المعنية القبول باحتماله. بيد أن المسألة اليمنية تتجاوز ثنائية من معنا ومن ضدنا، وتكشف من جديد تعقّداً يتّسق مع تعقّد النسيج الاجتماعي والسياسي البنيوي لليمن، على نحو قد لا يكون الحل العسكري وحده مدخلاً مواتياً للعبور نحو السلم المتوخى. والحقيقة أن الحملة العسكرية، ومنذ بياناتها الأولى، كانت متيقظة للنهايات التي ترومها. فما العسكرة، وفق أدبيات الحرب هذه، إلا أداة ضرورية لأعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات. وبالتالي فالضجيج الناري لميادينها ما هو إلا مدخل إلزامي باتجاه أروقة الديبلوماسية والحوار والتسويات. على أن تلك الحرب لم تصل باليمن حتى الآن إلى ضفاف التسويات. وأمر ذلك لا يتعلق فقط بقدرات المتخاصمين، بل بتعقّد الموقفين الإقليمي والدولي الذي لا يتيح التسليم بوجهة واحدة للحل اليمني. ولئن تلعب إيران دوراً سلبياً في اجتراح الحل وفق الطبخ اليمني، فإن المقاربات التي اعتُمدت حتى الآن، ابتداء من مخرجات الحوار الوطني مروراً بالمبادرة الخليحية وقرارات الشرعية الدولية انتهاء بجلسات المفاوضات التي تمت تحت رعاية المبعوث الدولي للأمم المتحدة، بقيت عاجزة عن توفير علامات حل ما في يوم ما. قد يبدو أن الإشكال يمنيُّ الطعم ولا يمكن حله إلا بالعدةّ اليمنية اللازمة. يميط الصراع اللثام عن تشابك معقد لا يمكن لأي مقاربة خارجية فك طلاسمه. فالصراع ليس مذهبياً كما يتم تصوره، وليس قبائلياً كما تشي الصورة النمطية، وليس عقائدياً ينهل من أيديولوجيات صلبة، وليس حزبياً وجاهياً تتنافس داخله التحالفات. وللمتأمل للشأن اليمني أن يستنتج بسهولة وهن الاصطفافات، وبالتالي سهولة اختراقها وتغيير خطوطها وهويات عناصرها. وربما أن التوق إلى ترياق يمني الصناعة هو ما يلفت إلى الجدل الذي صاحب مبادرة السياسي اليمني، محمد أبو لحوم. يطل الرجل من كونه شخصية قارب الصراع في بلاده برأس بارد يعتبر أن لا سبيل للحل إلا الحوار والحوار فقط. وعليه يبني أبو لحوم مشروعه على قاعدة وقف الحرب كشرط للولوج إلى السلم. وفيما أن نيران الميادين لا توحي باقتراب انطفائها، إلا أن مبادرة الحل تأخذ بالحسبان أيضاً حاجة المتقاتلين لوقف القتال. أطلق أبو لحوم مبادرته في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وبالإمكان تصور أن الرجل تداول مع رجال إدارة ترامب في ما يراه سبيلاً للسلم في بلاده. فتفاقم الحرب وغياب الدولة، وفق ورقته، سيؤديان إلى نهايتين: كارثة انسانية وتعاظم قوة الجماعات الإرهابية. وتلفت النقاشات التي شغلت المنابر اليمنية في الأيام الأخيرة، بما فيها تلك التابعة للحوثيين ولعلي عبدالله صالح، حاجة اليمنيين إلى تلقف المبادرة لما تحمله من توق للخروج باقتراحات تتجاوز ما تم تسويقه منذ بداية الأزمة اليمنية وحتى الآن. على أن اللافت في ما طرحه أبو لحوم يكمن في أن مداخلها تأتي لتتكامل وليس لتتناقض مع الرؤى الخليجية الأممية للحل. بكلمة أخرى يرتّق الرجل ثقوباً شابت المساعي السابقة، ويدعو إلى وقف الحرب لتكون مدخلاً لوقف تدحرج البلاد نحو العبث والفوضى والإرهاب. يرى الرجل أن وقف الحرب يوقف الصواريخ المنطلقة من اليمن ويفتح الباب أمام دخول المساعدات الإنسانية. ووقف الحرب يفرض منطق سلم، وبالتالي يلفظ الأطراف التي تتعيّش من فكرة الحرب في الداخل. ووقف الحرب يضع اليمنيين أمام أنفسهم داخل البيت، ويعيد للجدل بيتيته ويمنيته حول ماهية السبل للتفاهم على دولة السلم. من واشنطن يدعو أبو لحوم إلى إشراك روسيا في الحل. يعرف الرجل أن الاميركيين ما زالوا يريدون روسيا شريكاً لحل بعض النزاعات، وأن المماحكة حول سورية من لوازم تحسين هذه الشراكة، وأن لموسكو نفوذاً يمكن أن تمارسه على بعض أطراف اليمن للوصول إلى حل لا ترفضه دول الخليج.
يستوحي أبو لحوم مبادرته من حيوية العلاقة التاريخية التي تجمع اليمن بالسعودية ودول الخليج. المصالح مشتركة وستبقى لتبادل الأمن والتنمية والاستقرار والرخاء، وأن أي حل داخلي يحب أن يلحظ هواجس دول الجوار. وهو وإن يدعو موسكو إلى الملعب اليمني، فتلك معادلة تتسق مع قواعد التشكل الدولي في أعراضه الأولى. في مبادرة أبو لحوم، التي بدا أن صداها يشغل اليمنيين في الداخل كما المعنيين بشؤون اليمن في عواصم الجوار والخارج، مداخل واضحة: خطة أمنية لصنعاء تنفذ خلال 30 يوماً بإشراف الأممالمتحدة. إبقاء ميناء الحديدة مفتوحاً مع إشراف الأممالمتحدة على جميع البضائع الواردة اليه، في مقابل انسحاب الحوثيين من الميناء إلى مواقع متفق عليها. وبناء على خطته يجري تفتيش الشحنات من قبل الأممالمتحدة، كما يجري توزيع موادها على مختلف مناطق البلاد، من دون أي اعتراض من الحوثيين. العارفون في شؤون اليمن يدركون أن أبو لحوم، الذي لطالما تردد اسمه كثيراً لتبوؤ مناصب عليا في الدولة، يملك علاقات متينة مع كل أطراف الصراع، وبالتالي فإن ورقته في واشنطن استندت على معطيات وليس على تمنيات، وأن علاقاته الممتازة مع الرياض كما تلك مع الوجاهات القبلية والحزبية في اليمن، وفّر له أرضية لاقتراح حل عملي قابل للتنفيذ يخرج البلد من مأزقه. يكفي تأمل ما أثارته المبادرة من تحريك لمياه راكدة في أرضية التسويات المفقودة لاستنتاج لزوميتها. ولئن تعامل الأطراف مع اقتراحاته بالنقاش والجدل، فذلك أن كل الأطراف باتت أكثر استعداداً لولوج مداخل انضج. "الحياة" ... لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet