في آخر لحظة من لحظات حياته، وهي لحظة مواجهته للموت المحقق الذي لا مراجعة فيه ولا فصال؛ طالما يندرج في خانة الثأر وتصفية الحسابات المؤجلة، ناهيك عن استدعائه لهذا المصير الذي تجلى في تصريحاته المتلفزة في 2/12/2017م. ربما ما اكتشفه صالح في تلك اللحظة العصيبة هو أن كل ما بناه على امتداد عقود من حكمه من تحالفات ومن ولاءات ومن مصاهرات ومن شراء ذمم ومن مراكمة لأرقام فلكية في خانة المنتسبين لحزبه... كل ذلك كان مجرد وهم ومجرد سراب. اكتشافه لهذه الحقيقة المُرّة والمتأخرة كانت بالتأكيد الأشد إيلاماً له من كل الضربات القاتلة التي وجهت إليه، ناهيك عن اكتشافه لحقيقة مساحة نفوذه التي لم تتعد مساحة منزله بعد أن كان يتمتع بنفوذ يمتد على مساحة وطن يفوق مساحة مملكة البحرين ب 850 مرة. لقد اكتشف لحظة معانقته للموت دون رغبة منه أن كل من كانوا من حوله ممن عمل على علفهم وتسمينهم في حظائره على امتداد عقود من الزمن، كانوا بالمطلق مجرد غُثاء سيل وطواحين هواء وأبواق مخرومة وشهود زور وطلاب منفعة وطفيليات ضارة ومعدات خاوية لا هم لها سوى الإشباع والتقاط ما يمكنهم التقاطه من فتاته ومخلفاته. لقد اكتشف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن كل حشود السبعين وقاعات المقيل في كل محافظات الجمهورية التي صفقت له وهتفت بحياته ووعدته بأنها ستفديه بالروح وبالدم، كانت مجرد ظاهرة صوتية وزوبعة في فنجان، شأنها في ذلك شأن الجماهير التي بُحت حناجرها وهي تهتف بحياة الرئيس الشهيد الحمدي لتفرك به عند مقتله وتطوي صفحته في اتجاه التأسيس لفتح صفحة أخرى ربما هي أكثر صفحات تاريخ هذا البلد جدلاً، وأكثرها مآساة على الإطلاق. ربما هذه بعض من اكتشافات صالح في لحظات حياته الأخيرة، إذ ما كان يحتاجه كي يقف على الحقيقة الكاملة لمن كانوا من حوله هو لوقت أطول أهم ما في هذا الوقت هو أن يكون بمنأى عن الأنظار، بحيث يشهد تفاصيل كل ما يجري دون رقيب. السؤال هنا: ماذا لو قُدر لصالح أن يفتح عينيه ولو لساعات يتمكن من خلالها رصد مواقف وتصرفات من كانوا قريبين منه ممن كانوا يكيلون له المديح ويسبحون بحمده ويعدونه بالتضحية إن هو تعرض لأي مكروه!. لا أريد أن أسمي أحداً ممن نفخوا في قربة صالح طيلة عقود حكمه.... إنهم كُثر يتعدون المئات بل والآلاف فيما أسماؤهم وأرقام ثرواتهم المهولة ومستوى تفكيرهم وانحطاط سيرة بعضهم، كلها معلومات محفورة في الذاكرة الوطنية لاسيما ذاكرة المطحونين ظلماً وفقراً وجوعاً... إنهم لصوص الوطن وسراق أحلامه وأحلام قاطنيه ممن راكموا الثروات وجففوا ينابيع الخيرات على امتداد عقود من حكم مليكهم صالح. مرة أخرى ماذا لو قدر لصالح فتح عينيه من جديد ليلتقط من خلالها صوراً لكبار قادة تنظيمه وكبار قادة إعلامه، وكبار منافقيه ومطبليه ومظلليه مما كانوا يقتاتون على موائده وعطاءاته على حساب قوت الشعب وفقره وأمراضه وجهله، لو قدر له ذلك لتمنى الموتة ذاتها- أي لفضل الموت على أيدي أنصار الله الذين واجهوه وجهاً لوجه كما هي مواجهة الرجال على الموت كمداً على أيدي من أوقعوه في فخ المواجهة لينصرفوا إلى جحورهم كما تفعل الجرذان. ما يجدر بكل يمني إدراكه بعد الوقوف على الكثير من الأحداث السياسية منذ سبتمبر 1962م وحتى اللحظة هو أن كل شيء في هذا البلد قابل للتحول وللتبدل والتلون بغمضة عين، كل شيء ممكن الحدوث وقابل للتجسيد على أرض الواقع في ظل مجتمع قياداته ووجهاءه ونخبه ومراكز نفوذه يجيدون العزف على كل الأوتار ويجيدون الرقص والبرع على كل طاسة وطبل ومزمار، إذ من كان يصدق أو يتخيل أن تنتهي حياة صالح على ذلك النحو الذي شاهدناه وشاهده العالم من حولنا.... بتلك السهولة وبتلك الطريقة الدراماتيكية، خاصة وأن ما كان يفصله عن السبعين وعن حشود السبعين في أغسطس 2017م غير أمتار وغير بضعة أشهر فقط. [email protected] ... لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet