التغيير – صنعاء - حاور الشخصيات وأعد المواد للنشر: صادق ناشر : في حياة كل فرد منا شخصيتان مختلفتان: الأولى تلك التي يتعامل معها الناس ويعرفون مواقفها وأخبارها التي تخرج إلى الناس والصحافة، والثانية تلك المخفية التي لا يعرفها سوى قلة قليلة من المقربين والأصدقاء. وفي هذه المساحة تحاول "السياسية" الدخول في الزاوية المخفية من حياة هذه الشخصية أو تلك، من خلال حديث ذكريات يشمل أسرار الطفولة والشباب والعمل، والتعرف عن قرب على العادات والتقاليد والظروف الصعبة التي عاشها اليمنيون قبل أن يروا النور بثورتي سبتمبر وأكتوبر ودولة الوحدة. "النصف الآخر" محاولة لإخراج ما خبأته السنوات في حياة اليمنيين، من خلال رصد الواقع الذي عاشوه ويعيشونه اليوم. كما أنها محاولة لمعرفة كيف يفكر من عايشناهم طوال سنوات ولا نعرف ما ذا يحبون، وماذا يكرهون، وكيف وصلوا إلى النجاح الذي وصلوا إليه. تحاول "النصف الآخر" الابتعاد عن الخوض في الشأن السياسي، الذي يحبذ الكثير عدم الخوض فيه، وإن كانت السياسة حاضرة في بعض المواقف التي ضمها الحوار، لكن بشكل غير مباشر. "النصف الآخر" سلسلة لحوارات مع شخصيات يمنية مختلفة في السلطة والمعارضة، رجالاً ونساء على السواء، ومن كل مناطق البلاد. وستكون هذه الشخصيات حاضرة بتجاربها في الحياة هنا لتكون شاهدة على صور مختلفة من حياة اليمنيين. *فيما يتعلق بقضية السحل التي تردد كثيراً الحديث عنها في الجنوب بعد الاستقلال، هل تمت بطريقة منظّمة ورسمية أم أنها جرت بطريقة عشوائية؟ -هذه الأحداث وقعت وأنا في الخارج، لكن قد يكون للذي عملها مشاكل خاصة، لكنها مع ذلك تعتبر واحدة من الأخطاء الذي وقعت فيها التجربة في الجنوب، والحزب الاشتراكي وضع وثيقة نقدية اعترف فيها بالأخطاء، وأنا أقول إنه حتى ولو لم تكن هذه الأحداث بأوامر؛ فإن الحزب الاشتراكي مسؤول عنها، وقد اعتذر عن ذلك. *كُنتم قريبين من الحدود الشطرية السابقة، فهل بدأ النظام الجنوبي يضع حدوداً حقيقية بين الشمال والجنوب؟ -قد لا تصدقني إذا قلت لك إننا لم نكن نعرف أن محافظ لحج عوض الحامد من شبوة، وأنا السكرتير الثاني للحزب في لحج إلا في السنوات الأخيرة، فلم نكن نسأل من أين هو، كان الكثير من الفدائيين الذين يقاتلون في الجنوب من الشمال، وكان الكثير من أبناء الجنوب يقاتلون في الشمال دفاعاً عن ثورة سبتمبر، لم يكن أحد يركِّز على هذا، كُنّا نركز على عدو نسميه "رجعياً"، وأنا أقول الصدق والحقيقة؛ فقد تحررت الشعيب انطلاقاً من مريس وتحررت الضالع انطلاقاً من قعطبة، هذا الذي كنا نعرفه، عندما كان يظلم أبناء الجنوب في مناطقهم يذهبون إلى المناطق الشمالية، وهذا حاصل من الأربعينيات والخمسينيات، وعندما يظلم أبناء الشمال يأتون إلى عندنا، الكثير من أهلنا متزوجون من داخل جبن ومن قعطبة، ومن دمت، وجاءت الثورة وعمقتها أكثر. ودعني أضرب لك مثالاً آخر على ذلك: الذي اجتاح بئر أحمد في الحرب الأخيرة جنوبي والذي استشهد دفاعا عنها هو ناجي محسن الحلقبي عضو اللجنة المركزية من دمت، والطيارون التسعة الذي قتلوا في الحرب سبعة منهم من الشمال، الثورة إذاً مزجت بين الناس، والذي كان في قيادة جبهة الشعيب أثناء الحرب واستشهد دفاعاً عنها هو الشهيد أبو جميل، من المناطق الوسطى. موسكو وأول محطة خارجية *بعد أن انتهيت من العمل التنظيمي في لحج اتجهت إلى موسكو، هل كانت أول محطة خارجية؟ - نعم، ذهبنا إلى موسكو، كُنّا ندرس باللغة العربية لمدة سنة، والبعض منا يدرس لمدة ستة أشهر، وكان معنا زملاء مثل الفقيد سعيد صالح سالم وعبد الغني المقطري وأحمد محمد القعطبي والحاج "تفاريش" والمرحوم علي عيدروس وأحمد عبدالله الجحدري وآخرين كثيرين، وكان يُنظر إلينا باعتبارنا قادة، حيث كنا نحظى بالاحترام أينما ذهبنا؛ فيما لم نكن قادة كباراً، لكننا كنا نشرح تجربتنا الجديدة، وقد استفدنا من الدورة في موسكو استفادة حقيقية، لأن السوفييت كانوا يعطون لنا دروساً ترتبط بتجربة العالم الثالث، ونجحنا في الدّورة، وحصلنا على الدبلوم الأحمر. ومن موسكو سافرت إلى بريطانيا بالقطار، لأنه كان عندي رغبة في متابعة أوضاع المغتربين، فقد كُنت مسؤولاً عن المغتربين منذ ما بعد الاستقلال، وعقدت أول لقاء لمسؤول في دولة الاستقلال مع المغتربين في سنة 70، ومن هناك بدأت علاقتي بالمغتربين، وأحمد الله أنني لم التقِ بمغتربين باعتبارهم جنوبيين فقط، بل من عموم اليمن. *بعد عودتك من موسكو عدت إلى عملك الحزبي القديم؟ إلى متى بقيت في عملك الحزبي؟ -بقيت حتى عام 72، وشاركت في المؤتمر الرابع للحزب، ثم بعد ذلك تم تعييني قنصلاً في بريطانيا، أي سكرتير أول، وطبعا هذا التعيين كان عندي مثل النفي، أنظر إلى أين كان الارتباط بالبلد، فلم نكن نريد أن نذهب إلى أي مكان؛ لأن ذلك كان مثل النفي، وكنت أتساءل: ما الذي عملته حتى يتم تعييني في بريطانيا، بينما الذين كانوا اكبر منا كانوا يرون أنني كنت اقرب إلى المغتربين. وقد بقيت في بريطانيا سنتين وخدمت المغتربين بشكل ممتاز، وكنت مسؤولاً حزبياً فيها، وعدت من بريطانيا ومعي 50 جنيها فقط، فطوال حياتي لم أأخذ أي فلس من المغتربين، يدي حتى الآن نظيفة والحمد الله. بعد عودتي إلى عدن عُيّنت مدير دائرة القنصلية للمغتربين في وزارة الخارجية، وبعدها ذهبت مع أول وفد إلى بعض دول الخليج لنصرف جوازات للمغتربين، ذهبنا إلى دولة الإماراتالمتحدة ثم إلى قطر وصرفنا لهم جوازات دون أن نأخذ منهم غير رسوم الجوازات. في عام 1974 ذهبت إلى الولاياتالمتحدة، حيث شاركت في دورة الأممالمتحدة مع الفقيد السفير محمد البيحي وعبد الله عرمان والخضر صالح، وهي الدورة التي خطب فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات، وزرت مزارع المغتربين وتعرّفت على الحياة التي يعيشونها، وقد كانت متعبة خاصة في كاليفورنيا. بعد ذلك، جئنا بالكثير من المغتربين أصحاب الكفاءات من باكستان والهند إلى جامعة عدن، وأرسلنا بعثات دراسية للمغتربين في عدّة دول، وبقيت في هذا العمل حتى سنة 77، ثم بعد ذلك ذهبت إلى السعودية وافتتحنا سفارة هناك، حيث عُيّنت فيها قنصلاً، وكُنّا نعمل في الليل والنهار وكنا نصرف للناس الجوازات، وبعدها عدت إلى عدن بعد سنة ونصف، قبل أن أعود إلى المملكة من جديد في سنة 79، حيث عُيِّنت قائماً بالأعمال، ثم رئيساً للبعثة حتى سنة 80. عملي الدبلوماسي قربني من الناس *ماذا أضاف العمل الدبلوماسي لمحمد غالب؟ - كان كل عملي مع المغتربين واعتبرهم أهلي وأتعامل معهم بإخلاص وبكل نقاء، كنت أنقل لهم صورة ما يجري في البلاد بكل صدق؛ لأن الصورة التي كانت تنقل لهم كانت سيئة، خاصة وأنهم تضرروا من أشياء كثيرة، وكان هذا على حساب راحتي، وقد خلقت علاقات طيبة مع المغتربين. تصوّر أن مغتربي بريطانيا من منطقة شمير بتعز ومن مقبنة، من إب، ومن الجنوب كله يجمعون تبرعات من أجل بناء مدرسة في يافع، والتبرع الثاني يبنون فيه مدرسة في شمير، وهكذا، يعني كان التبرع يأتي ككتلة واحدة من الشمال والجنوب، تماماً كما كانت كل قيادات اتحاد العمّال وكل منظمات الحزب من الشمال والجنوب، وهذا هو موقفهم الذي ظلوا عليه حتى وقت قريب إلى أن جاء من يريد أن يعيد الزمن إلى الوراء من بعد حرب 1994. لقد كسبت علاقات حميمة مع المغتربين بكل فئاتهم، بمن فيهم الأغنياء والتجار، لكن بطريقة نزيهة وبإمكانكم أن تسألوا نماذجهم الرائعين صالح باثواب وبامشموس وغيرهما كيف كنا نقدم المساعدات ونسهل الإجراءات لهم لفتح المصانع بدون "كميشن"، وبدون شراكة معم. أثناء عملي في المجال الدبلوماسي تعلمت الكثير، وأكثر الأشياء تعلمتها من وزير الخارجية محمد صالح مطيع، فقد كان لا يرفع أي تقرير إلا عندما نكتب نحن تقاريرنا من دوائرنا، مع معرفته بأن تقاريرنا لا ترقى إلى مستوى التقرير الذي يعده هو، لكنه كان يحترم جهود الآخرين. *من الذي أثر فيك خلال هذه الفترة أثناء عملك في السلك الدبلوماسي، سواء شخصيات يمنية وغير يمنية؟ -وزير الخارجية محمد صالح مطيع. أما سالم صالح فهو بالنسبة لي زميل وصديق وأخ، وهو أيضاً قائد من الطراز الأول، محمد هادي عوض، وكان سفيراً في لندن وهو أستاذي أيضاً، الشهيد عبدالله بن سلمان وكان سفيراً، الفقيد عبدالله محيرز، الذي كان قائما بأعمال السفير في لندن، واحترمت الأستاذ محسن العيني وقد تعاملت معه، عندما كان سفيراً للشمال في بريطانيا، هؤلاء من الناس الذين تأثرت بهم. *ومن الشخصيات الأجنبية؟ -تعلمت الكثير من الشخصية الفلسطينية عبد المحسن أبو ميزر، فقد كان محنكاً في طريقة إدارة للعمل السياسي والدبلوماسي، وهو قائد في منظمة التحرير، كانت له قدرة كبيرة على اختراق الأماكن التي كانت ممنوعة على الفلسطينيين أثناء المقاطعة الدولية على القيادة الفلسطينية. لي صداقة مع الكاتب البريطاني المعروف فريد هوليدي، فقد وجدت لديه الكثير من المعلومات عن المنطقة وفي بعض الأحيان أكثر مني، وهو بالنسبة لي صديق شخصي. *هل ندمت على رحيل مطيع؟ -ندمت على الكثير ليس فقط على مطيع، كان مطيع اكبر من عمره، تماماً مثل عبد الفتاح إسماعيل، مقتل مطيع كان خسارة على البلد كلها، بالإضافة إلى عبد العزيز عبد الولي، كثير من الشخصيات في وزن مطيع وعبد العزيز عبد الولي وعبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح قاسم وعلي شائع هادي وغيرهم الكثير، رحلت وكانت خسارة على الحزب والبلد. *ما الذي شدك إلى مطيع؟ -مطيع كان ذكياً، ويقال إنه هرب عدة مرات من سجن المنصورة أيام الإنجليز، ولهذا أطلق عليه لقب "المعجزة"، وتعايش مع قادة جبهة التحرير، والذي هربه من السجن اسمه "العوكبي" وآخرون من جبهة التحرير من جبهة الصبيحة، وكان عنده علاقات مع الناس وكان يخلق علاقات كثيرة، وكان رجلاً قوياً غير عادي وكنت أحترمه كثيرا جداً. *هل أثرت المناطقية في رأيك على الصراعات التي شهدها الجنوب؟ -لا أعتقد، المناطقية بدأت تفعل فعلها اليوم، كان لا يوجد شيء اسمه المناطقية، كان الخلاف حول الموقف من الثورة ومن الوحدة ومن الرجعية، قتل واحد من شبوة بجانب سالمين، والذي قتل صالح مصلح وعلي عنتر في أحداث 86 كان من لحج، كان الناس يختلفون على المواقف وأحيانا على الشعارات، وأحياناً كانت تحصل اشتباكات أو "مضرابة" على قضايا صغيرة، كان هناك تطرّف في أشياء كثيرة، مثل: "المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي" أو "المنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي"، وأنا شخصياً لم أكن داخل تلك المعمعة. *أين نجد التطرّف أستاذ محمد؟ - التطرف، كما يقول الكاتب فيكتور هيجو، هو "أن تحب الشيء إلى درجة الإساءة إليه، وأن تكون مع الشيء إلى درجة أن تصبح مخالفا له"، مثلاً: الذين كانوا متطرّفين في الحزب الاشتراكي لم يبق واحد منهم، كل المتطرّفين خرجوا من الحزب الاشتراكي بعد الحرب الأخيرة في عام 1994، والذين كانوا متطرّفين قبل وأثناء الحرب خرجوا حتى انقلبوا انقلاباً آخر، وآخر المتطرّفين كانوا معنا إلى سنتين أو ثلاث، وحصلوا لهم بقعة أخرى فيها رزق، لكنهم لا زالوا متطرّفين علينا فقط. عفوية علي عنتر *عرف عن قادة الجنوب أن الكثير منهم كانوا بسطاء، برأيك هل هذه البساطة هي التي صنعتهم قادة؟ -هذه كانت بساطة القوي، وليست سذاجة، هناك فرق بين الساذج وبين الوفي، لأنهم لو كانوا عفويين كان بإمكانهم أن يذهبوا في الاتجاه الآخر، حيث الفلوس ونعمة الله، عندما يترك علي عنتر الكويت ويأتي للنضال ضد الانجليز ليس عفوية، أو يقتل صالح مصلح ضابطاً سياسياً للانجليز وهو يعمل مع الشرطة ويفر إلى قعطبة ليأكل كدم أو يترك عبد الفتاح مصافي النفط ليلتحق بالعمل الفدائي ليس عفوياً، ومثله سالمين، وقحطان الشعبي وسعيد صالح وغيرهم كثير. هؤلاء كانوا بسطاء لأنهم أقوياء، والذرة التي فيها الحَبْ تكون منحنية عكس التي ليس فيها حبّاَ، بعض الناس يتحدّث اليوم ممن لهم ثأر مع الثورة، يقولون: إن "العفويين هم الذين ودّفوا بنا للذهب إلى الوحدة"، وأنا أقول إن الذي دعا للوحدة ليسوا العفويون، بل أناس كان لهم تاريخ، وأول من دعا إلى الوحدة هو الفقيد القائد عبدالله باذيب في سنة 57 في صحيفة "الطليعة" التي أصدرها في تعز. هؤلاء كانوا أناساً صادقين وبسطاء، لكنهم أقوياء، وعلي عنتر كان يقول: "عندما أموت سوف أموت ومعي هذه البدلة"، وفعلاً مات وليس معه سواها . *يقال إن علي عنتر كان أكثر زعماء الجنوب عفوية، برأيك لماذا؟ -كان لكل قائد له ميزة، علي شائع كان عنده ميزة استنهاض الهمم من خلال الشعر الذي كان يكتبه، عبد الفتاح عنده طرح العمق، علي عنتر كانت علاقته ممتازة مع الناس، كما هو حال سالمين، كان بسيطاً جدا، وكان علي عنتر عندما يهطل مطر يفرح، وكان يقول: إن المطر لن يجعل الناس الذين على حدود الشطرين يتقاتلون، وسوف يعودون إلى الأرض لزراعتها. كان علي عنتر يحب الأطفال، وكان يزورهم في رياض الأطفال، ويتفرج معهم على مسلسل "بشار"، كان يقول له البعض منهم: غير معقول تقعد تتفرج أفلام كرتون مع الأطفال، وأنت نائب رئيس، يقول لهم: لم يكن معنا زمان شيء اسمه "بشار"، لم يكن معنا سوى حجار نرجم بها بعضنا البعض. ومن الطريف أنه كان ينكت على نفسه، مرة نكت على نفسه بالقول إنه دخل امتحان لوحده في قاعة الامتحان وجاء ترتيبه الثاني، وهو يرد على من كان يقول إنه لا يصلح أن يكون الرجل الأول. علي عنتر لم يدع أولاده يطلعون بأية سيارة عندما يذهبون إلى المدرسة، كان يقول لهم: امشوا مثل بقية الناس، لم يكن يوجد أحد مترفعا في القيادة، كانت قيادة متواضعة، واستشهدوا، وليس معهم شيء، والذين ما زلوا أحياء لا يملكون شيئاً، ولا أحد عرف "التمتير" حق الأراضي إلا بعد حرب 94.