كتب/ فضل علي مبارك إبان حرب صيف 1994م تداولت بكثرة عبارة "اليافعي رطل والزيدي وقية" التي يقال إن "المجاهد" علي بن الفضل القرمطي نقشها على باب اليمن حيث تمكن من دك معاقل صنعاء والسيطرة عليها وإخضاع أهلها لحكمه.. وتقول بعض الروايات إنها لا زالت ولا يخفى على أحد مبعث هذا التداول منذ ذاك الحين، ويبدو أن حسرة في النفس قد تولدت عند الطرفين مع شمولية أفقها واتساع ظرفها المكاني. أما ما نجده انعكاسا اليوم على أرض الواقع خلال العقد "النصف المنصرم" وكأنه نتاج باطني يمارسه البعض هروبا من سيطرة عقدة النقص لديه. وفي المجال الرسمي الذي يستمد -في معظم الأحيان- نجد أن المساواة التي نادت بها وحدة 22 مايو 1990م التي تترنح اليوم تحت وقع معاناة الناس غير المحتملة، وقبلها صيغت ضمن أهداف حركة 26سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963م، نجد هذه المساواة قد فرغت من محتواها وجوهرها إلا في بطون الكتب المدرسية، وديباجة الخطب الرسمية، ليحل محلها التمايز المناطقي والجهوي، وأصبحت مكانة ومرتبة الناس تؤخذ لا بحسب ولائهم أو مواقفهم، ولكن بحسب قربهم من "السنتر" قبليا ثم مناطقيا وجهويا.. فأبين رغم حضورها الطاغي -مثلا- في سجل السياسة، تأتي في مرتبة أدنى من محافظة صنعاء، وحضرموت وما تشكله من ثقل اقتصادي وسياسي لا تحظى بذات الحظوة التي تحظى بها صعدة رغم ما أبداه أبناؤها من تمردات ومحاولات علنية للخروج عن "الطاعة" وذات القدر ينطبق على شبوة إذا ما قورنت بمحافظة مأرب.. ودعونا نكون أكثر صراحة وتحديدا بأمر هام في هذا الجانب يتعلق بأرواح الناس وثمنها وكذا اختلاف طرق تعامل السلطة مع مطالب الناس من منطقة لأخرى.. فمثلا إذا قامت مجموعة قبلية من صنعاء أو مأرب باختطاف سواح أو خبراء أجانب فإن التودد واللين وبذل المساعي وتقديم التنازلات من قبل السلطة واستمرار الحوار والوساطة لأسابيع وأشهر وتنفيذ مطالب الخاطفين، يكون هو السمة الغالبة في تعامل السلطة.. وإذا ما كان "الجناة" من أبين أو شبوة.. لحظات البرق فقط تفصلنا عن تجريد قوة عسكرية يرافقها التهديد والوعيد، وبغض النظر عن طبيعة ومشروعية مطالب هؤلاء وهؤلاء من عدمها، فإن الجميع في نظر القانون يعدون متهمين، لكن واقع الحال "اليمني" يبحث عن مبررات أصحاب الفئة "ألف" لتبرئتهم، وإدانة أصحاب الفئة "باء" ومحاكمة من نجا منهم من رصاص الحملة العسكرية، والشواهد على ذلك لا تحصى ولا تعد. ولعل أصدق وأحدث مثال على ما ذهبنا إليه ما نشهده الساعة من فعل تمايز تنفذ فصوله السلطة.. ومحتواه.. التالي.. في منتصف ديسمبر الماضي -أي قبل ستة أشهر- نفذت الحكومة -حسب مصدرها- أو بواسطة واشنطن- بحسب مصادر معارضة غارة جوية على ما ادعت أنه معسكر لتدريب عناصر القاعدة في منطقة المعجلة بمحافظة أبين، وتجاوزا لمدى نجاح الضربة أو عدم نجاحها، وهل تم القضاء على المطلوبين وعددهم ومن هم، حيث فشلت السلطة حتى اللحظة في تقديم إجابة مؤكدة حول تلك الأسئلة حتى اليوم، هذه الضربة وبأدلة موثقة بينها تقدير لجنة برلمانية - أدت إلى مقتل نحو خمسين مدنيا، نصفهم أطفال ونصف النصف الآخر نساء.. ورفضت السلطة الاعتراف بالخطأ وظلت بأجهزتها وإعلامها تشيد بالضربة وأنها استهدفت عناصر القاعدة، وذهب بعض المسئولين للقول بأن النساء هن في إطار المشتبه بهم، حيث كن يقدمن الدعم اللوجستي للإرهابيين. وظلت قبائل باكازم التي احَكَّمَتْ العقل ولم تنجر إلى ردة الفعل الغاضبة بوجه خاص وقبائل العوالق بوجه عام قبائل وأبناء المحافظات الجنوبية وعدد غير قليل من قبائل وأبناء المحافظات الأخرى، طوال هذه الفترة بانتظار بادرة "خير" من السلطة.. بالاعتراف بالخطأ والإعلان -ولو بالقول- لمعالجته.. وفاحت رائحة البعض في قاعة مجلس النواب الذي حاولت بعض قواه وأد القضية وعدم التعاطي معها إلا في نطاق "إملاءات" المصدر الأمني.. وكانت شجاعة بعض النواب قد أجبرت القاعة على تشكيل لجنة تقصي حقائق في الضربة الجوية وخلفياتها، وعلى مضض تخوفا من انقياد القضية إلى أبعاد أخرى. نقف هنا في تفاصيل ضربة المعجلة، لنستحضر ضربة مأرب التي وقعت الأسبوع الماضي وراح ضحيتها الأمين العام للمحافظة وثلاثة من مرافقيه -حسب الإعلام الرسمي- مدى ونسبة نجاح الضربة ومن هم من المطلوبين الذين تم القضاء عليهم. وبالمقارنة بين الضربتين وتداعياتهما نقرأ: أولا: في المعجلة بلغ عدد الضحايا المدنيين أكثر من خمسين، بينهم أطفال ونساء فيما لم يتعد ضحايا مأرب الأربعة. ثانيا: سارعت السلطة إلى الاعتذار عما حدث في مأرب وعبرت اللجنة الأمنية العليا التي عقدت اجتماعا طارئا عن أسفها ووزعت ذلك عبر رسائل الجوال وتم تشكيل لجنة عليا على وجه السرعة للتحقيق في ملابسات الضربة.. فيما هددت السلطة قبائل باكازم في ضربة المعجلة ورفضت الاعتذار والاعتراف بالخطأ، ولم تشكل لجنة -ولو صورية- حتى اللجنة البرلمانية لم يوضع لها أي اعتبار. ولم يؤخذ بتوصياتها وقراراتها.. التي تنص على محاسبة المتسببين. ثالثا: ترى السلطة ومراكز قوى فيها أن أبناء باكازم -وهم جزء من الجنوب- هم مواطنون من الدرجة الثالثة وبالتالي فإن ثمن دمائهم معروفة وبادرت إلى إرسال ديات وأروش الضحايا بنحو أربعمائة مليون.. بينما لم تتجرأ على الحديث والعمل بالمثل تجاه ضحايا ضربة مأرب. رابعا: عملت السلطة اعتباراً -وأيما اعتبار- لقبائل عبيدة التي ينتمي إليها ضحايا ضربة مأرب وسارعت إلى طلب تحكيم قبائل مأرب اليوم التالي، مع أن تلك القبائل كانت ردة فعلها غاضبة، وقامت بأعمال رأت فيها انتقاما وهي أعمال خارجة عن القانون وغضت السلطة الطرف على العكس من قبائل باكازم التي ظلت تطالب السلطة برد الاعتبار والاحتكام لها.. وعندما سعت الخميس الماضي بعد أن نفد صبرها ورأت ما رأت من الكيل بمكيالين عمدت إلى قطع الطريق بين عدن وحضرموت، فكان تهديد السلطة ووعيدها وحشدت القوات لضرب آل باكازم وفتح الطريق. خامسا: قامت السلطة بإرسال مائتي قطعة سلاح وخمس سيارات وخمسة ملايين إلى قبائل عبيدة "وجه" بطلب التحكيم دون أن تطلب ذلك عبيدة، وفي الجانب الآخر رفضت مطالب باكازم ومن باب الإحراج أرسلت وسطاء من أبنائها بسيارتين وعشرين قطعة سلاح فقط. إذن وأمام هذه المفارقات العجيبة في "اليمن الأفضل" يمن العدل والمساواة" و"دولة القانون" نقول: ليس هناك دم آري ودم عبيد في المجتمع.. حتى نعلي شأن الأول ونسفك الآخر على قارعة الطريق.