كتب/البروفيسور/سيف العسلي يتم التفريق في علم الاقتصاد بين إدارة الاقتصاد في الأجل القصير وإدارته في الأجل الطويل. ففي الأجل القصير يتم التركيز على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، أي المحافظة على المستويات الاقتصادية التي تم الوصول إليها. أما في الأجل الطويل فانه يتم التركيز على رفع هذه المستويات إلى مستويات أعلى. و يبدو ان التركيز على إدارة الاقتصاد اليمني في الأجل القصير قد تغلب على إدارته في الأجل الطويل. و على الرغم من الحديث عن تحقيق التنمية الاقتصادية فانه في الواقع لم يتم حتى التفكير في تحقيقها. فالتنمية الاقتصادية إذن هي ظاهرة اقتصادية مرتبطة بالأجل الطويل. إنها ببساطة تعني بالمقام الأول زيادة النمو الاقتصادي من خلال مشاركة اكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع و مكوناته. و على الرغم من كون التنمية الاقتصادية ظاهرة اقتصادية إلا أن لها ارتباطات بكل من الظواهر السياسية و الاجتماعية. و من اجل التوضيح فانه يمكن تشبيه عملية التنمية الاقتصادية بطائرة بحيث يمثل الاقتصاد محركها و السياسة و الاجتماع جناحيها و أفراد المجتمع ركابها. فمن الواضح أن اليمن لم يحقق نموا اقتصاديا مستداما. فما تحقق من نمو في بعض السنوات كان نتيجة لعوامل عرضية مثل هجرت العمالة إلى الدول المجاورة و استخراج النفط و الغاز. و لذلك فان مصدر هذا النمو لم يكن مشاركة جميع عناصر الإنتاج الداخلية و الخارجية. و من ثم فان أثره كان محدودا من حيث الزمان و المكان و الافراد. و اذا ما جاز لنا استخدام هذا المثال لتوضيح عملية التنمية الاقتصادية في اليمن فانه يمكن القول: فكما ان الطائرة لا تقلع الا اذا توفرت لها المحركات الكافية حتى لو كان لها اجنحة و كان على متنها ركاب فان عملية التنمية لا يمكن ان تبدأ الا اذا توفرت لها ثلاث محركات اقتصادية حتى لو كانت هناك رغبة في تحقيقها على المستوى السياسي و الاجتماعي. هذه الثلاث المحركات هي العمل و الاستثمار و اغتنام الفرص. ان زيادة الدخل ممكن ان يحدث نتيجة للعمل او يمكن ان يحدث نتيجة للإرث او الصدقة او استخراج الكنوز. فقط لا يمكن ان يكون زيادة الدخل بصورة مستمرة الا اذا كان مصدره العمل. اما ماعدا ذلك فانه يمثل زيادة مؤقتة. و اذا كانت التنمية الاقتصادية تعني الزيادة المستمرة في الدخل فإنها تعني بكل تأكيد زيادة الدخل من خلال زيادة العمل. فما حدث من زيادة في الدخل في اليمن كان نتيجة تحويل المغتربين و الذي ارتبط بظروف خارج سيطرته و كذلك من خلال استخراجه بعض موارده الطبيعية ة مثل النفط و الغاز. و نظرا لان هذه الزيادة في الدخل لم تؤد الى تحفيز العناصر الداخلية و خصوصا عنصر العمل لدى غالبية السكان فان ذلك لم يعمل على اطلاق تنمية اقتصادية حقيقية قابلة للاستمرار. ذلك ان الموارد الطبيعية مهما كان حجمها لا يمكن ان تطلق تنمية اقتصادية من اي نوع. العمل الانساني هو وحده القادر على اطلاقها. فالتنمية الاقتصادية مرتبطة بالإنسان على اعتبار انه اداتها و غايتها. فالدول التي تهمل عنصرها البشري لا تملك اي فرصة لتحقيقها أي تنمية اقتصادية فيها. فمن اجل استغلال طاقة العمل في اليمن فقد كان لا بد و ان تتوفر ثلاث متطلبات. المتطلب الاول اقتصادي (المحرك) اي توفير حوافز للعمل. اما المتطلب الثاني فهو سياسي (الجناح الاول) العدل. اما المتطلب الثالث فهو اجتماعي (الجناح الثاني) اي تقدير قيمة العمل. لا يمكن اطلاق اي عملية تنمية اقتصادية بدون الاعتراف بحق العامل في الحصول على حوافز عادلة. فحوافز العمل هي على قسمين: ايجابية و سلبية. تتمثل الحوافز الايجابية في الاعتراف للعامل بنتائج عمله و بحقه في استخدامه كما يرغب هو بذلك. اما الحوافز السلبية فتتمثل في ترك العامل يتحمل مسئولية نفسه. بمعنى انه اذا كان له كامل الحق في الحصول على قيمة عمله كذلك فانه اذا لم يعمل او اذا بذر قيمة عمله فان عليه ان يتحمل نتائج ذلك. و من الملاحظ ان هناك اختلالاً في الحوافز الايجابية و السلبية في اليمن. فبعض العمال يجبر على الحصول على اقل مما يستحق و البعض الآخر يحصل على ما لا يستحق. فالأجور في اليمن لا تتحدد من خلال التراضي بين العاملين و المستخدمين اي من خلال السوق اي قانوني العرض والطلب. فالحكومة و كبار المستثمرين و التجار و ملاك الاراضي يفرضون على العاملين ما يرونها اجرا مناسبا. و يرجع ذلك الى تخلف سوق العمل في اليمن و تساهل الدولة في حماية حقوق كل العاملين وخصوصا العاملين لديها. فلا الدولة طبقت قوانين السوق بصرامة و لا هي طورت اجراءات اخرى مناسبة. فالقادرون على العمل بكفاءة اما في البيوت او متقاعدون او عاطلون و من لا يقدر عليه تعطى له اولوية الحصول عليه. و لقد ترتب على ذلك حدوث ظاهرة عجيبة فبدلا من ان يكون العمل حقا لمن يطلبه و يستطيع القيام به فقد اصبح محتكرا لمن لا يقدر عليه على اعتبار انه مشابها لبرامج الضمان الاجتماعي. لقد فتحت هذه الممارسات باب الكسل على اوسع ابوابه مما ادى الى التواكل و عدم العمل و من ثم اعاقة عملية التنمية الاقتصادية. اما المحرك الثاني للتنمية فهو الاستثمار. الاستثمار ضروري لعملية التنمية لأنه يزيد من فاعلية العمل من ناحية و لأنه يمكن العمل من الوصول الى الموارد الطبيعية التي لا يستطيع ان يصل اليها باستخدام طاقته الطبيعية المجردة. انه ينقسم الى قسمين: القسم الاول الاستثمار البشري اي التنمية البشرية و القسم الثاني الاستثمار المادي اي الآلات و المعدات و المباني و الطرق و الجسور و غيرها. و كما هو معروف فان التنمية البشرية تعني التعليم و كل ما يرتبط به من انشطة، اي التعليم العام و التدريب و البحث العلمي. اما الاستثمار المادي فيرتبط بتطبيقات التعليم، اي بالتكنولوجيا. فمن اجل اطلاق الاستثمار فانه لا بد و ان تتوفر لها اعتبارات اقتصادية (المحرك) و سياسية (الجناح الاول) و اجتماعية (الجناح الثاني). ففيما يتعلق بالاعتبارات الاقتصادية فان الانسان يفضل العاجل على الآجل. و بما ان الاستثمار بنوعية يعني تأجيل الاستهلاك الى المستقبل فانه لن يقدم اي انسان على ذلك الا اذا توفرت له حوافز كافية و ضمانات. فالاستثمار يعني ان يستهلك الفرد او المجتمع اقل في الوقت الحاضر مقابل الامل بان يستهلك اكثر في المستقبل. ان المحرك الاول للاستثمار هو استقرار العملة و الاسعار. ففي هذه الحالة فانه سيترتب على الادخار تحقق الاستثمار من خلا توسط البنوك و المؤسسات المالية. و لا شك ان اليمن قد عانت و لا زالت من تدهور قيمة عملتها و من تغير الاسعار بشكل عشوائي. و نتيجة لذلك لم تتطور البنوك التجارية و لم يتم اقامة اسواق مالية. اما محرك الاستثمار الثاني فهو التعليم و المعرفة. انهما يمكنان الانسان من استخدام الموارد الطبيعة بطريقة افضل اي ان الجهد المبذول سيكون اقل و ان العائد عليه سيكون اكبر. ولذلك فانه سيمكن الانسان من استخدام الطاقة الطبيعية التي تفوق طاقته بكثير مما سيمكنه من تقليل الجهد المبذول و زيادة العائد عليه الا ان الصحيح ايضا ان ذلك غير مؤكد وتكتنفه العديد من المخاطر. لذلك فلا بد و ان يكون العائد مجزيا و ان يكون الحصول عليه مضمونا قدر الامكان. ان تساهل الدولة مع عملية التعليم قد ادى الى عدم تحقيق اي تقدم حقيقي في هذا المجال على الرغم من زيادة الانفاق العام و الخاص عليه. لقد اخفقت الدول في تنظيم عملية الأفراد لأنفسهم بطريقة فعالة و كفؤة.. ان عملية الاستثمار و الانتاج لا بد و ان تكون جماعية. فلأسباب عديدة فان مجالات الاستثمار الفردية محدودة و العائد عليها محدود ايضا. و في هذه الحالة فانه لا بد من أن يسمح للمؤسسات الاقتصادية ان تأخذ حجمها المناسب و ان يسمح لها بالتطور و التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية. فالمؤسسات الاقتصادية في اليمن فردية وصغيرة الحجم و غير منظمة. ان مجالات الاستثمار الافضل ترتبط و بشكل وثيق بالأشكال التنظيمية للمؤسسات الاقتصادية. ان الدولة لا بد و ان تلعب دورا مساندا لذلك. ان دورها في التعليم و التدريب و التأهيل والتكنولوجيا مهم جدا. ان ذلك ينبع من ان الافراد قد لا يدركون اهمية ذلك إلا في اوقات متأخرة. و ثانيها ان بعض الافراد قد لا يستطيعون ان يتحملوا تكاليف ذلك و رابعها ان من يستطيع ان يتحملها فانه قد لا يكون قادرا على استعادتها. كذلك فان دور الدولة في بعض نواحي البنية التحتية المرتبطة بالاستثمار مهم جدا. و خصوصا تلك المجالات التي تتعلق بأنشطة عدد كبير من الاستثمارات و التي يصعب على المستثمرين الاتفاق على تقاسم تكاليفها و عوائدها. اضف الى ذلك ان ما يتعلق بكل من الضرائب و الحوافز الاقتصادية الاخرى و على رأسها الادارة الكفؤة لكل من السياسة النقدية و المالية. و يرتبط بالاستثمارضمان تطبيق العقود و الوفاء بالالتزامات المترتبة على عمليات الاستثمار و الادخار. و لا يستطيع ان يجادل احد بان الدولة اليمنية قد قصرت في هذه الجوانب تقصيرا كبيرا مما ترتب عليه غياب التنمية على اليمن و لفترة طويلة. اما المحرك الثالث للتنمية الاقتصادية فيكمن في عملية اقتناص الفرص. ان عملية التنمية عملية لها بداية وليس لها نهاية. و لذلك فانه لا يمكن توقع ما قد يعترض عملية التنمية من فرص او عقبات. و من اجل ذلك فقد فشلت عمليات التخطيط المتنوعة في تحقيق التنمية او في ادارتها لأنها تنطلق من الماضي لقراءة المستقبل. و لا شك ان العلاقة بين الماضي و المستقبل محدودة جدا. ان اطلاق عملية التنمية يتطلب الاستعداد لإدارتها. فبدون ذلك فان محاولة الاطلاق قد تفشل حتى لو كانت هذه المحاولات صحيحة فقط لأنها قد حرمت من عملية الادارة. ان ادارة التنمية تعني الاستعداد لاغتنام الفرص و التغلب على العقبات. و لا شك ان ادارة التنمية عملية مشتركة بين الجوانب الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية. فقد تتطلب ادارة التنمية تغير السياسات الاقتصادية الامر الذي يعني تغيير بعض القوانين السائدة و من اجل ذلك فانه لا بد و ان تتوفر ارادة سياسية. و كذلك فان ادارة التنمية قد تتطلب تحمل بعض التكاليف الاجتماعية الامر الذي يتطلب اقناع الفئات الاجتماعية بذلك بهدف تقبل هذه التكاليف من خلال الاقناع و ليس من خلال الاجبار. ان فشل الدولة اليمنية في ادارة التنمية الاقتصادية واضح للعيان. فالأدلة على ذلك كثيرة. و لعل من اهم ذلك هو إهمالها للملف الاقتصادي. فرؤساء الحكومات المتعاقبون لم يكونوا من الاقتصاديين ناهيك عن كونهم من الاقتصاديين المبرزين. و جل من تولى الوزارات ذات العلاقة بالجوانب الاقتصادية لم يكن لهم اي علاقة بالاقتصاد لا من قريب و لا من بعيد. و من يحلل تعامل الجهات الحكومية مع القضايا الاقتصادية سيجد انها متنافرة و متناقضة و غير منسجمة. فلا علاقة واضحة بين الوزارات ذات الشأن الاقتصادي مثل المالية و التخطيط و النفط و الخدمة المدنية و الانشاءات و البنك المركزي. و قد ترتب على ذلك تضارب و تناقض تصرفاتها فيما يخص التعامل مع القضايا الاقتصادية. و قد انعكس ذلك على كل من القوانين ذات العلاقة بالتنمية الاقتصادية، فلا علاقة بينها وبين الخطة الخمسية و لا الموازنة العامة و لا القانون المالي و قانون الاستثمار و لا اتفاقيات النفط و قانون البنك المركزي و لا قانون البنوك التجارية و الاستثمارية و لا قانون المناقصات و لا قانون الجهاز المركزي للرقابة و المحاسبة و لا قانون مكافحة الفساد و لا قانون الشركات و لا قانون المؤسسات الاقتصادية و لا القوانين الاخرى. و من الادلة على ذلك تعامل هذه الجهات مع برنامج الاصلاح الاقتصادي. فمن الواضح انه لم يكن مناسبا لليمن لأنه لا يوجد انسجام بين مختلف مكوناتها و لا تتوافق مع ظروف اليمن. فقد تم القبول به تحت ضغط المنظمات الدولية و من اجل مجاملتها او خداعها. و من ثم فانه لم يحظ بالإدارة الكفؤة مما ترتب عليه تعثر العديد من مكوناتها و بالتالي عدم تحقق غالبية الاهداف التي توخيت منه. بل ان ما تم انجازه في بعض مراحله قد قضي عليه في مراحل اخرى. و لقد ترتب على ذلك ضياع العديد من الفرص. فالعديد من الاستثمارات كانت غير المخطط و غير كفؤة. و من يشك في ذلك فما عليه الا ان يقيم كلا من مشاريع التعليم و الصحة و البنية التحتية. فلا التعليم تطور و لا الصحة تحسنت و لا البنية التحتية خلقت مجالات اقتصادية جيدة قادرة على التعويض عن تقلص قطاع النفط. و من الفرص الضائعة اهدار عائدات النفط والغاز. فقد تم تبذير ايراداتها خلال انفاقها على مجالات تشجع على الكسل و الاستهلاك و على حساب الاستثمار. ألا ترى ان القطاع النفطي نفسه قد حرم من ايراداته. فظلت البلاد تعتمد على الخارج في مجال الاستثمار و الادارة مما ترتب عليه ان معظم عائدات النفط قد ذهبت للخارج. و من الفرص الضائعة اهمال القطاعات الواعدة. ألا ترى ان مشاريع البنية التحتية المنفذة لم تخدم القطاعات الواعدة، اي السياحة و التجارة. أما كان بالإمكان تركيز مشاريع البينة التحتية في الطاقة التدريب المهني و استكشاف و تكرير المشتقات النفطية و الغازية؟. و مع ذلك فان فرص تحقيق التنمية الاقتصادية في اليمن لا زالت موجودة و لكنها لن تظل كذلك الى ما لا نهاية. فاليمن يتشابه مع العديد من الدول التي نجحت في تحقيق تنميتها. ومن يستعرض تجارب العديد من الدول مثل تايوان و سنغافورا و كوريا الجنوبية و حتى الصين سيدرك ذلك. انها حققت ذلك من السعي لتظافر كل من العوامل الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية. فقد قاد عملية التنمية قادة سياسيون وطنيون و ساعدهم في ذلك اقتصاديون متميزون لديهم رؤى واضحة و تصميم كبير و اخلاص منقطع النظير. فقد عمل الجانبان كفريق واحد يكمل بعضه بعضا. و قد تجاوبت كل فئات المجتمع مع جهودهم الجادة فكانت النتيجة نجاحات كبيرة لم تكن متخيلة. و اذا ما تم تقييم اوضاع اليمن فإنه سيجد انه ما زال تتوفر له فرص حقيقية للنجاح في تحقيق تنميته. انه يمتلك المحركات و الاجنحة لها. و الأهم من ذلك انه يمتلك اهم مكون من مكونات التنمية الاهم و هو العنصر البشري. ان تحقيق التنمية في اليمن يتطلب من فخامة الاخ الرئيس علي عبد الله صالح ان يأخذ زمام المبادة في التنمية الاقتصادية و ذلك من خلال تكوين فريق اقتصادي متميز يعمل تحت اشرافه و توجهاته المباشرة من اجل اطلاق عملية التنمية الاقتصادية و الاستمرار في ادارتها. انني ارجو من فخامته ان يرعى عملية التنمية الاقتصادية بنفس القدر الذي رعى فيه تنظيم خليجي عشرين. و انني متأكد انه سينجح كما نجح في ذلك. و لا شك ان الآثار المترتبة على نجاح عملية التنمية ستفوق بكثير تلك الآثار التي ترتبت على نجاح تنظيم خليجي عشرين. آلا هل بلغت اللهم فاشهد!