استطلاع/ رشيد الحداد البحث العلمي أحد أهم أسس النجاح وأحد محددات التخلف والفشل في تجاوز ترسبات الماضي، فبوجوده وجد التقدم والتطور وبغيابه حضرت المشاكل المختلفة.. سياسية واقتصادية واجتماعية.. فبه فهم الإنسان الطبيعة واكتشف أسرارها وسخرها لخدمته وبه تجاوزت الشعوب القلاقل والمحن وحققت ما تصبو إليه من رخاء ورفعة واستقرار لأنها أوكلت مصيرها لأهل القلم وليس لأهل السيف، وعلى الرغم من حاجة اليمن -التي تسابق قضاياها الزمن لأهل القلم والبحث العلمي في البحث في أغوار المشكلة وتشخيصها بدقة ووضع الحلول، إلا أن البحث العلمي في اليمن يمر بمرحلة عصيبة وسط تجاهل حكومي مريب، فعشرات المراكز الخاصة بالبحوث العلمية والدراسات وآلاف الدراسات والبحوث، مكدسة في المراكز المختلفة جميعها عالجت مشكلة ما ووضعت الحلول وقدمت التوصيات ومع ذلك لم تحظ بأدنى اهتمام بل تحولت رسائل الدكتوراة والماجستير ومختلف البحوث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية إلى مشكلة كما يراها الآخرون تستحوذ على حيز واسع في المراكز الحكومية وهو ما يدعو للأسف.. حال البحث العلمي في اليمن وحال الباحث اليمني في الفقرات التالية: يقاس التقدم والنمو في أية دولة بما توليه حكومتها من أهمية للبحث العلمي في كافة المجالات ولكن البحث العلمي في اليمن السعيد يعيش أسوأ مراحله رغم وجود جائزة سنوية للبحث العلمي ومجلس أعلى للبحث العلمي ومراكز وهيئات تعتني بالبحث العلمي لا يتجاوز دورها الظواهر الصوتية وهناك مراكز تسعى لرصد الأحداث وتقديمها بما يخدم الحزب (س) أو (ص) وفي المقابل لا تخلو وزارة من إدارة خاصة بالدراسات والبحوث فأكثر من 28 مركزاً بحثياً يتواجدون في الجامعات الحكومية والخاصة وأكثر من 11 مركزاً بحثياً أهلياً تحت مسمى مركز دراسات وبحوث، فللدراسات والبحوث اليمنية مركز وللبحوث والتطوير التربوي مركز وعلوم البحار مركز وللزراعة والإرشاد الزراعي مركز وأكثر من مركز للثقافة وآخر للاقتصاد وثالث للجيولوجيا ورابع للطب البيطري وخامس للتنمية وسادس لدراسات الجدوى وسابع للمرأة وثامن يبذل القائمون عليه قصارى جهدهم للبحث عن مشروع عمل حتى وإن كانوا لا يدركون أدنى معرفة حول المشكلة باعتبار رؤيته الأساسية المال المدخل الأساس للمعرفة، حتى وإن استدعى الأمر تجريد الآخرين من حقوقهم العلمية وتقديم نتائج وتوصيات سبق للآخرين أن قدموها في بحوث ودراسات أفنوا أعمالهم من أجل إعدادها بمهنية علمية. تلك العشوائية من جانب والارتجالية من جانب آخر حظيت باعتراف رسمي من قبل عدة سنوات كمشكلة ولكنها ظلت مفتوحة دون حل. هدر المال العام تجاهل أهم محددات التطور والتقدم فتح أبواباً أخرى من أبواب الفساد وإهدار المال العام تحت ذات الغرض، فعشرات الشركات الاستشارية تعمل في اليمن بملايين الدولارات تحت يافطة إعداد دراسات جدوى لمشاريع حكومية رغم تحذيرات المدركين لحقائق الأمور، إلا أن الهدف الأساسي من استقدام شركات أجنبية ليس من أجل الكشف عن الحقيقة أو استشراف المستقبل وإنما من أجل غسل المزيد من الأموال وتمويه الرأي العام عما يحدث ومن ثم رمي تلك الدراسات الفنية وغيرها في أدراج الوزارات والمؤسسات وعلى سبيل المثال لا الحصر استقدمت الحكومة شركة C.D.B الكندية للاستثمارات في عام 2000م للقيام بإعداد دراسة فنية حول جدوى قيام سوق أوراق مالية في اليمن وإعداد مشروع قانون الأسهم والسندات، رغم أن الموضوع قانوني وليس فنياً بإمكانيات صندوق النقد العربي والمبلغ يتجاوز عدة ملايين من الدولارات وعقب تقديم الدراسة تم ترجمتها إلى اللغة العربية وما علمناه من أحد المختصين أن إعداد الدراسة ومشروع القانون والترجمة كلف 10 ملايين دولار وبعد ذلك لم تر الدراستان النور بل تقادمت ومضى عليها حتى الآن ثمان سنوات. وعلى نفس المنوال ظلت عدد من الوزارات تسلك نفس الطريق في التعاقد مع شركات استشارية، كشف أن معظمها ليت سوى شقق في أوروبا وأمريكا وكندا ولم تحظ أي من تلك الشركات بسمعة دولية أو حتى محلية في مجتمعها المحلي، ولكن الجانب الحكومي ظل يتغنى بما قدمته تلك الشركات من دراسات وسعى في الآونة الأخيرة إلى ربط استقدامها بعلاقتها الكبيرة مع الدول المانحة ودورها في جلب المزيد من المساعدات والقروض والمنح وخير دليل على ذلك إعلان اليمن مؤخرا استقدام عدة شركات استشارية للقيام بدراسة تشخيصية لإعداد وتأهيل العمالة اليمنية وكذلك دراسات تشخيصية للإدارة المستدامة وتطويرها وثالثة لبناء القدرات. تقرير مجلس الشورى تقرير لجنة التربية والتعليم في مجلس الشورى حول واقع البحث العلمي في اليمن أشار إلى جملة من المخاطر المرتبطة بإسناد مهام ذات خصوصية محلية لشركات تجهل الواقع اليمني وليس لديها أدنى معرفة. وأشار التقرير الذي كشف حقيقة ما يعانيه البحث العلمي في اليمن والباحثون المحليون إلى أن الاعتماد الكامل على تلك الشركات الأجنبية التي تتقاضى مبالغ مالية كبيرة وباهظة -حد وصفه- في إعداد دراسات واستشارات فنية ليس سوى إهدار للمال العام على حساب مخصصات التنمية، وأوصى التقرير الرسمي بتشجيع البحث العلمي وترجمة النص الدستوري بالمادة 27 من الدستور من خلال إعداد قانون للبحث العلمي واعتبر الاعتماد على شركات أجنبية يعرض البحث العلمي للضعف والتوقف عن الإنتاج وكشف عن انقراض العلاقة بين صناعة السياسات البحثية واتخاذ القرارات بنتائج البحوث والدراسات العلمية بدليل أن عدداً كبيراً من التشريعات لا تستند إلى دراسات علمية سابقة، كما دعا إلى تشخيص واقع البحث العلمي وإيجاد الحلول المناسبة والبعد عن العشوائية القائمة واستمرار المؤسسات البحثية في التخبط والفشل. السعيد دور مشهود تحتل اليمن المرتبة الحادية عشرة من بين الدول العربية في عدد المراكز البحثية الحكومية بواقع 7 مراكز بينما احتلت مصر المرتبة الأولى بفارق 73 مركزا كما أن إنفاق اليمن على البحث العلمي لا يساوي 0.05% من إجمالي الدخل المحلي الإجمالي، يضاف إلى ذلك تدني إسهام القطاع الخاص في دعم وتشجيع البحث العلمي، فعلى الرغم من تعدد المراكز البحثية الخاصة إلا أن المؤسسة البحثية الوحيدة التي أسهمت في تشجيع البحث العلمي هي مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة وعبر جائزة المرحوم الحاج هائل سعيد أنعم استطاعت المؤسسة أن تقدم دوراً محورياً في تشجيع البحث العلمي من خلال الإسهام المباشر في البحث العلمي في اليمن، شريطة أن يؤدي البحث العلمي إلى زيادة المعرفة وأن يقدم إضافة علمية وعملية قد تسهم في مجال التنمية وفي عدة مجالات ساهمت جائزة السعيد إلى وقف نزيف هجرة العقول وتكريم الباحثين المتميزين في مجال العلوم الطبية والعلوم الزراعية والاقتصادية والإنسانية، وإلى جانب ذلك أنشئ صندوق السعيد لدعم البحث العلمي بقرار من مؤسسة السعيد بهدف دعم البحث العلمي وتشجيعه خصوصا الباحثين المختصين والأكاديميين في الجامعات اليمنية والمؤسسات والمراكز والمشاركة في إنشاء مشاريع بحوث علمية محددة مشتركة بما ينسجم مع متطلبات التنمية. صناع النجاح وصناع الفشل أثبت اليمنيون قدرتهم على مجاراة التطورات التي لا تتوقف عند أي حدود في ظل واقع اقتصادي وبيئة طاردة للعلم وأهله وحظي معظم الباحثين في شتى المجالات باهتمامات العالم باستثناء البلد الوحيد الذي استثنى البحث العلمي ومخرجاته من كل شيء واعتمد العشوائية أسلوباً لمجاراة العصر، الشهر الماضي توصل باحثون يمنيون في المجال الطبي إلى اكتشاف دواء لداء السرطان من حبيبات الذرة الشامية ونقلت الحدث معظم وسائل الإعلام الإقليمية والدولية باستثناء المحلية والرسمية منها كما لم يحظ عدد من المخترعين بأدنى اهتمام إلا بعد أن استقطبوا من دول أخرى تولى للبحث العلمي أهمية كبيرة وترى فيه أساس التقدم والتطور وبعد أن نال عدد من الباحثين والمخترعين شهرة عالمية وعادوا إلى اليمن ضيوفا -لا من أجل خدمتها- تم الاعتراف بهم الأسبوع الماضي كشف الباحث والطالب في كلية الهندسة جامعة صنعاء عن ابتكار رجل آلي "روبورت" يسمع ويتكلم العربية ويتعرف على الأشخاص ويتحرك بالاوامر الصوتية وينتقل من مكان إلى آخر عبر نظام تقني (جي بي سي) الابتكار كان ثمرة عدة سنوات أفناها الطالب اليمني حمدي سحلول قدم الابتكار كمشروع تخرج قابل للتطوير، ولكن من سيتبنى دعم اختراع حمدي.. فأمثال حمدي لم يجدوا صناعة المستحيل فصنعت منهم سلطة الأمر الواقع فشلا. رغم ضعف ارتباط الأبحاث العلمية بأهداف وسياسات خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في غالب الأحيان إلا أن أساس كل بحث مشكلة ولكل مشكلة أسبابها وتداعياتها خلال زيارتنا للمركز الوطني للمعلومات لاحظنا جزءاً بسيطاً من مخرجات البحوث والدراسات العلمية التي قدمتها كوكبة من الباحثين وبذلوا من أجل الوصول إلى الحقيقة الغالي والنفيس والوقت والجهد والمال، فشخصوا بدقة المشكلة وعادوا إلى أسبابها ووضعوا خطط طريق للوصول إلى الحقيقة الغامضة وفي الختام وضعوا النتائج والتوصيات، فأكثر من ثلاثة آلاف دراسة ماجستير ودكتوراة معظم تلك الكنوز المعرفية والعلمية أوصى المشرفون على مناقشتها بطباعتها وتوزيعها على نطاق واسع لخدمة التنمية ولكن لم تجد مكانها الحقيقي في بلد يهمش العلماء ويعلي من شأن الجهلاء، ففي داخل المركز الوطني للمعلومات يوجد أكثر من 3 آلاف مشكلة وبالمثل الحل وفي مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وعلوم الإحصاء والبيئة والجغرافيا والطب والتربية والهندسة والإدارة وجميع تلك الدراسات أوصت بالحل ولكن لا مكان لحلول في بلد أصبح من أكثر بلدان العالم إنتاجا للمشاكل وتجاهلا للحلول. علماء اليمن في العالم تشير المعلومات إلى أن عدد الباحثين في اليمن الذين أنفقت عليهم الدولة ملايين الدولارات في الجامعات العربية والأجنبية عادوا إلى اليمن ليجدوا وطنهم الأم الذي عشقوا وتمنوا خدمته قد تسيده الفساد وعشش فيه الجهل فوجدوا أنفسهم في الرصيف فهاجروا ووفقا للمعلومات فإن إجمالي هجرة العقول اليمنية 4500 عقل البعض منهم أسسوا جمعيات كجمعية العلماء اليمنيين في أمريكا التي تعقد كل عامين مؤتمرا عاما وتستدعي مسئولين من الحكومة اليمنية للحضور كضيوف شرف. مجلس الشورى الذي طلب حضور عدد من المسئولين منتصف الشهر الجاري لمعرفة أسباب تجاهل البحث العلمي أوصى بسرعة أخراج قانون البحث العلمي إلى النور الذي يراوح ست سنوات منذ أن طرح مشروع القانون كفكرة لا زالت في سلة المهملات إلى اليوم وعلى الرغم من تعليق مسمى البحث العلمي إلى وزارة التعليم العالي إلا أن جل ما قدمته الوزارة للبحث العلمي لم يتجاوز حدود الاسم، حيث لا توجد إدارة خاصة بالبحث العلمي ولا حتى وكيل الوزارة لشئون البحث العلمي بل تم شخصنة دورها في البحث العلمي في الإعداد لجائزة رئيس الجمهورية للبحث العلمي التي حاز عليها هذا العام عدد من الدكاترة المحسوبين ونجل الوزير. مجرد سؤال ألا تعلم وزارة التعليم العالي أن هناك دكاترة أجلاء لديهم عشرات البحوث وبحاجة ماسة للدعم والتشجيع المعنوي والمادي.. ألا تعلم أن هناك دكاترة يعملون في جامعة صنعاء منذ سنين وتدرس دراساتهم كمناهج رسمية في أعرق الجامعات اليمنية لماذا يتم استثناؤهم من التكريم عاما بعد آخر؟