كتب/ أحمد الحاج لكل مشكلة أو أزمة تظهر أو تستفحل في أي دولة من الدول أسبابها وعواملها المختلفة كالعامل الاقتصادي ومن عناصره الفقر والبطالة وكالعامل السياسي وفي الصدارة منه التسلط والاستبداد وسوء الإدارة وكالعامل الثقافي ومن مكوناته الجهل والتعصب واختلاف الرؤى والأفكار والأمزجة بين الجماعات والطوائف التي يتكون منها النسيج السكاني للدولة . ولا شك أن للازمة التي تعيشها اليمن اليوم أسبابها وعواملها الاقتصادية والسياسية والثقافية التي لا يمكن إرجاعها إلى عامل واحد من هذه العوامل وإنما إليها مجتمعة. إذا كانت العوامل السياسية والاقتصادية للازمة الراهنة قد حظيت باهتمام الكتاب والمثقفين ورجال السياسة في اليمن فان العامل الثقافي ودوره في نشوء هذه الأزمة لم يزل بحاجة إلى نقاش وضمن هذا العامل تكمن مشكلة الهوية الثقافية لليمن التي تتنازعها العديد من الهويات المحلية في الشرق والغرب والشمال والجنوب . نعم توجد هوية وطنية جامعة لكل أبناء اليمن الذين يدينون بدين واحد هو الإسلام ويتكلمون لغة عربية واحدة وينحدر معظمهم من أصل يمني سامي واحد ويقطنون مساحة جغرافية متصلة لا يفصل بينها بحر أو محيط إلا انه يوجد بجانب هذه الهوية أو في إطارها هويات محلية في الشرق والغرب والشمال والجنوب، قوام هذه الهويات المحلية تمايز واضح في الطبائع والأمزجة واللهجات وفنون العمارة والأزياء وبعض العادات والتقاليد المختلفة من منطقة يمنية إلى أخرى، تسببت في إنتاج هذه الهويات المحلية تواريخ سياسية ومذاهب دينية متنوعة بقيام أكثر من دولة وسلطنة في آن واحد وفي أكثر من منطقة يمنية معينية، سبئية، حميرية، قتبانية، أئمة وسلاطين احتلالات تركية وبريطانية وبظهور مذاهب دينية سنية وشيعية كما كان للتضاريس الجغرافية والمناخات المتنوعة أيضا دورها في تشكيل هذه الهويات المحلية المختلفة . والواقع أن الأزمات التي عرفتها اليمن عبر تاريخها القديم والحديث لم تكن بعيدة عن صراع هذه الهويات المحلية المختلفة وإن من غير الحكمة الآن أن يستمر تجاهل هذا العامل الثقافي في إنتاج المشاكل والأزمات في هذه البلاد . إن اعتراف الدول بوجود مثل هذه الهويات المحلية للجماعات في كل دولة لم يعد حقا من حقوق الإنسان في هذا العصر وإنما أصبح واجبا من واجبات أنظمة الحكم الصالح الرشيد وهو المقدمة التي لا بد منها ليتمكن قادة النظام وحكماؤه من إدارة تنوع الهويات المحلية في إطار دولة الوحدة أو في إطار الهوية الوطنية الجامعة على أن إدارة هذا التنوع -كما في الحالة اليمنية- تقتضي تفكيرا جديدا وأساليب عصرية تختلف عما عرفته اليمن في الماضي من حروب وصراعات كانت تنتهي في العادة بغالب ومغلوب، حين كان الاعتقاد سائدا لدى الزعامات اليمنية أن القوة والغلبة هي الوسيلة الوحيدة لتوحيد البلاد كما فعل الإمام المتوكل إسماعيل في القرن العاشر الهجري الذي امتد نفوذه ليشمل معظم مناطق اليمن شمالا وجنوبا وحتى حدود عمان أو كما فعل الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، الذي استطاع بالقوة توحيد العديد من مناطق شمال اليمن في الفترة من عام 1918م إلى عام 1948م وكما فعل ابنه الإمام احمد الذي حافظ على وحدة الكيان اليمني الذي ورثه من أبيه من عام1948م إلى عام 1962 م أو كما فعل علي عبد الله صالح الذي استطاع بالقوة الحفاظ على دولة الوحدة من عام 1994م وحتى يومنا هذا، كل هذا حدث بالتأكيد غير أن وسائل القوة لم تتمكن من إلغاء تلك الهويات المحلية وإذابتها في هوية وطنية جامعة الأمر الذي تسبب ومازال يتسبب في حدوث الفتن والقلاقل والاضطرابات ذات الأبعاد الطائفية أو المذهبية أو المناطقية ومنها ما تعيشه اليمن اليوم من توترات وحروب والتي تعود بعض أسبابها إلى وجود تلك الهويات المحلية المختلفة . إنها في الواقع إشكالية هوية ابرز مظاهرها الآن وجود ما يسمى بالحراك الجنوبي الذي يطالب بفصل الجنوب عن الشمال، مبررا ذلك بوجود هوية ثقافية للجنوبيين تختلف عن الهوية الثقافية الخاصة بسكان الشمال، ومن مظاهر هذه الإشكالية وجود تمرد شيعي آخر في شمال شمال اليمن يدعي الدفاع عن هوية شيعية محلية لأبناء محافظة صعدة في مواجهة ما يزعم قادة التمرد الغزو الوهابي السني المدعوم من بعض أجهزة ومؤسسات الدولة لتبقى إشكالية الهوية اليمنية واحدة من عوامل الصراع لن تتوقف هذه الإشكالية عن إنتاج الأزمات ما لم تتم معالجتها بحكمة وروية. ولقد أكدت كل تجارب الماضي أن القوة التي اعتمدت عليها الزعامات اليمنية وسيلة وحيدة للتوحيد أو للحفاظ على الوحدة لم تنجح في إزالة التناقضات بين الهويات المحلية المختلفة ولم تتمكن من إذابتها ودمجها قسرا في هوية وطنية جامعة الأمر الذي يوجب على عقلاء الأمة وحكمائها التفكير بشكل مختلف بحثا عن أفضل الوسائل لمعالجة هذه الإشكالية ومن هذه الوسائل الأكثر نجاعة في معالجة إشكالية الهوية المحلية المختلفة يأتي الاعتراف بوجودها والرهان على الوسائل الأخرى الأكثر تمدنا التي أثبتت نجاحها في معالجة هذه المشكلة وفي صدارة هذه الوسائل إنتهاج سياسة إنمائية عادلة ومتوازنة تقرب المسافات بين سكان المناطق اليمنية وتربط بين أبناء الوطن الواحد برابط قوي من المصالح والتخلي عن العصبية الأسرية أو العشائرية أو المناطقية قاعدة للحكم ومنح سكان كل منطقة يمنية سلطات حقيقية في إدارة شئون مناطقهم تحت أي تسمية فيدرالية أو حكم محلي واسع الصلاحيات. كما يأتي في مقدمة الإجراءات الضرورية لإدارة تنوع الهويات المحلية في إطار الوحدة إعادة النظر في اقتسام الثروة بحيث يكون لكل منطقة يمنية حصتها العادلة من ثرواتها الطبيعية ومواردها المالية ويكون للدولة المركزية القدر المعقول من الموارد الضرورية لممارسة وظائفها كدولة حارسة لأمن الوطن وسلامة أراضيه . ومن تلك الوسائل الضرورية لإدارة التنوع الثقافي والاجتماعي في إطار وحدة الكيان السياسي للدولة حياد أجهزة ومؤسسات الدولة في كل ما يتعلق بالمذاهب الدينية أو بعمل المؤسسات الدينية ووسائل الوعظ والإرشاد وترك سكان كل منطقة يمنية أحرارا في اختيار مذاهبهم الدينية والعناية بمؤسساتهم الدينية واهتمام أجهزة ومؤسسات الدولة المركزية بدلا من الانغماس في الصراعات المذهبية الدينية بتشجيع الثقافة الجديدة بمضامينها الإنسانية ووسائلها العلمية المترفعة عن الصراعات المذهبية والمناطقية والعشائرية .