كتب/ د.مصطفى يحيى بهران بسبب توفر الوقت هذه الأيام وجدتني أعيد زيارة بعض أوراقي وكتبي فسقط ناظري على كتاب "اكتشاف الفريز" (تحرير بيتر تراور، شيكاجو برس 1987)، الذي أعاد بي الذكرى إلى آخر أيام الدراسة والعمل في الولاياتالمتحدةالامريكية، ففي مثل هذا الشهر من العام 1993م قبل أيام من عودتي إلى بلادي بعد أكثر من تسع سنوات من الدراسة والعمل في الولاياتالمتحدةالامريكية حصلت على هذا الكتاب كهدية قيمة منحني إياها أستاذي القدير والمشرف الرئيس على رسالتي للدكتوراة في فيزياء "النيوترينو" البرفسور "جورج كالبفلش" أستاذ الفيزياء الجسيمية والنووية بجامعة اوكلاهوما وهو العالم الذي ساهم في تصميم وبناء وتشغيل مُعَجِل "فيرمي الهادروني" فائق الطاقة، فضلاً عن اكتشافاته وإضافاته العلمية الكثيرة، وعلى وجه الصفحة الأولي المقابلة للغلاف الداخلي للكتاب الذي أهداني اياه كتب لي جورج ثلاثة دروس سماها دروس "لويس الفريز"، وهذه الدروس الثلاثة تلخص أهم ما تعلمه جورج من أستاذه ومشرف رسالته للدكتوراه في جامعة "بيركلي" بكليفورنيا الفيزيائي العظيم لويس ألفريز الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1968م (ألفريز إسم أسباني أصله الإسم العربي الفارس)، وقد ذيل جورج هذه الدروس العلمية بالجملة التالية: "شارك تلاميذك هذه الدروس وانقل شعلة المعرفة (الفريز--- * كالبفلش --- * بهران --- * ؟)". ثم أمهر ما كتب بتوقيعه. أعدت قراءة رسالة جورج ودروس الفريز في هذا الوقت بالذات الذي اشتهرت فيه اليمن في الإعلام الخارجي بقضايا الإرهاب والعنف منذ محاولة النيجيري عمر فاروق عبد المطلب تفجير الطائرة الامريكية ليلة "عيد الميلاد" الماضي، فضلا عن الأزمات التي تعصف بنا وفي مقدمتها الازمة الاقتصادية الخانقة التي هي أصل المصائب جميعاً، وكنت مؤخراً في سلسلة من المقالات باللغة الإنجليزية قد توجهت للمجتمع الدولي مقيماً الحجة بأن حل مشكلة الإرهاب ومعها بقية مشاكلنا مجتمعة على المديين المتوسط والطويل لن يأتى إلا من خلال تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، وهذه تتطلب -قبل كل شيء- منظومةً للتعليم العام والعالي تقوم على المعرفة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، وكان الكاتب الأمريكي المشهور "توماس فريدمان" قد كتب في إحدى مقالاته بعد زيارته لليمن في فبراير الماضي مطالباً بلاده بناء خمسين مدرسة مع كل صاروخ أمريكي يستخدم ضد القاعدة في اليمن، وقد كتبت حينها موافقاً ومعلقاً عليه بأن بناء المدرسة لا يكفي، فلا بد من بناء نظام تعليمي عصري للمدرسة، وأصل هذا النظام وعموده الفقري هو الإنسان- المعلم لأن الإنسان هو الذي يضع المناهج وهو الذي يعلم وهو الذي يدير المدرسة وهو الذي يبدع وينتج، وإنتاج هذا الإنسان-المعلم يتم في الجامعات وعلى وجه التحديد في الكليات ذات العلاقة وخاصة كليات التربية، وبالمثل أهم عنصر في هذه الكليات هو الإنسان-المعلم الجامعي، لذلك يجب أن تكون الأولية الوطنية اليوم هي إنتاح مئات بل آلاف العلماء والتكنولوجيين حاملين شهادات الدكتوراة في العلوم المعاصرة من أرقي وأغلى جامعات العالم، ولذلك اقترحت على السيد فريدمان إضافة خمسين منحة للدراسات العليا في بلاده مع كل صاروخ، ويا حبذا لو بدأت حكومة بلاده بمئات من المنح بما يساوي قيمة الصواريخ التي قد استخدمت حتى الآن، كما انني وجهت الحديث لكل الاصدقاء في الدول المانحة مقيما نفس الحجة مطالبا بالمثل. تخيلوا لو أن كل دولة صديقة تقدم عشرات المنح السنوية للدراسات العليا في العلوم الأساسية والتطبيقية والتكنولوجيا المعاصرة المرتبطة بعجلة التنمية، وتخيلوا لو أن عدد المنح السنوية يفوق الألف منحة، وتخيلوا أنها تذهب للمتفوقين والمبدعين من شبابنا وشاباتنا، وتخيلوا أننا خلال سنوات قليلة نبدأ بضخ أكثر من ألف عالم وعالمة سنويا في نظامنا التعليمي، ألن يحدث ذلك ثورة تعليمية تستطيع أن تحدث تأثيراً مباشراً في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية؟. إن عدد العلماء في اليمن محدود جداً ولهذا لا تأثير لهم يذكر، بل إن أكثرهم تحول للسياسة والأمثلة والأسماء هنا كثيرة، فلم يشكل علماء اليمن "حجماً حرجاً" يستطيع أن يحدث فرقاً في حياة الناس ولكن لو استطعنا رفد الجسد العلمي اليمني بألف عالم في السنة سيتشكل ذلك الحجم الحرج وسيحدث الفرق ويكون التأثير، فلن يقهر التخلف والجهل والفقر والمرض وسلطة الإرهاب والعنف وسلطة الأيديلوجيا والتعصب والتطرف وسلطة العسكر والقمع والبلطجة وسلطة المال والفساد وسلطة القبيلة والنسب وسلطة الكهنوت والخرافة وسلطة المجرمين الذين يحللوون اغتصاب القاصرات باسم الشرع وسلطة الفوضى وغياب القانون، لن يقهر ذلك إلا العلم والمعرفة في مناخ من الديمقراطية والحريات العامة وعلى وجه التحديد حريتي التفكير والتعبير. لقد توفي جورج كالبفلش ومن قبله ألفريز ولكن دروسهما ما تزال على قيد الحياة في العالم أجمع، في الجامعات والمعاهد والمؤسسات والمنظمات والمراكز العلمية العليا كمنارة للبشرية جمعاء وشعلة تنتقل جيلاً بعد جيل بتحديث وتطوير وتقدم مستمر، والسؤال هنا هو: ماذا عن الشعلة في اليمن؟ وأين حكومتنا واحزابنا وسياسيونا سلطةً ومعارضةً منها؟ وهل يستوعبون ذلك؟ لقد اتفقوا اخيراً على الحوار وإجراء إنتخابات إبريل 2011 في موعدها بحسب بنود اتفاق فبراير 2009 كما طالبنا وتمنينا جميعاً، وبمباركة فخامة الرئيس في يوم السابع عشر من يوليو التأريخي، هذا يدعونا للتفاؤل بكل تأكيد، ويدفعنا للدعاء: اللهم وفقهم ووفق بينهم من أجل مصلحة الوطن والمواطن إنك انت السميع العليم، ولعلهم يسمعون. [email protected]