كتب/د.ناصر محمد ناصر في الأسبوع المنصرم فقط وبعد مضي ستة عشر عاماً على حرب 1994م، التي كان يمكن تجنبها بمشاركة شريك الوحدة في القرار السياسي، وبعد مضي عشر سنوات خاضها النظام في حروب متوالية مع الحوثي، كان يمكن تجنبها بشيء من التواضع والمرونة والقبول بوجود الآخر، أصبح خيار النظام هو السلام، لقد سقطت مفردات الخطاب السياسي التي صنعتها حرب 1994م، والتي تعرفونها جيداً، وحلت محلها مفردات جديدة قوامها الاستجداء والمناشدة لقوى الداخل والخارج، إن هذه ليست مجرد زلة لسان بل هي لغة جديدة تمثل ملامح مرحلة جديدة من عمر النظام الآخذ في التداعي والانحلال، لم يكن سقوط معسكر الزعلاء في يد الحوثي وأسر مئات الجنود بضربة خاطفة، مجرد حدث عابر يمكن القفز عليه، بل باتت عنواناً لمرحلة جديدة تحكمها معادلة جديدة وخطاب جديد، فالذي لا شك فيه أن هذه النقلة النوعية في الخطاب السياسي لم تأت من فراغ، وإنما تجسد نقلة أخرى أكثر عمقاً في موازين القوى السياسية والاجتماعية، عكست نفسها على مظاهر هذا الخطاب؟ والسؤال المطروح هو ما هي هذه النقلة التي حدثت؟ للإجابة على هذا السؤال دعونا ننظر في التالي: خلال السنوات الثلاثين التي انقضت من عمر النظام، حكم النظام البلاد من خلال معادلة قوامها مركز وبدائل، وتمثل المركز في المركب العسكري القبلي الممسك بكل مفاصل القوة والثروة وبدائل سياسية، واجتماعية، تمثلت في قوى اليسار واليمين، القابلة للإحلال محل الآخر، حسب مجمل الظروف التي يصنعها ويخلقها النظام، الهادف إلى البقاء والديمومة عبر مشروعه الوراثي، الذي يمثل حجر الزاوية لكل سياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن أجل هذا الهدف المركزي للنظام لجأ النظام -كي يبقي على معادلة المركز والبدائل قائمة وفاعلة- إلى التلاعب بأساسيات المجتمع اليمني وأساسيات الثقافة الحاكمة والموجهة له، غير مدرك للنتائج البعيدة التي يمكن أن تترتب على هذا التلاعب وعدم الاعتراف بوجود الجميع، إن التلاعب في أساسيات المجتمع لا يختلف عن التلاعب في أساسيات البناء، فالتلاعب في أساسيات البناء يمكن أن يحول البناء إلى أنقاض، والتلاعب في أساسيات المجتمع يمكن أن يقود المجتمع إلى نفس النتيجة، عالم الطبيعة واحد وما يسري على المرئي والملموس من قوانين، يسري على غير المرئي وغير الملموس، لم يدرك النظام أن البنى الاجتماعية بمكوناتها الثقافية تعد موازين الحياة السياسية وركيزة استقرار النظم السياسية، وأن تغييب أحدها يعني تغييب أحد ركائز النظام، لقد أقدم النظام على سحق وتغييب اليسار مرتين الأولى في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، عندما سحق الجبهة الوطنية وهمش وجودها وثقافتها، وأسس المعاهد الدينية كعنوان لبروز قوة اجتماعية جديدة اعتقد أنها لا تشكل خطراً على نظامه، والثانية في حرب 1994م، عندما وظف هذه القوة الصاعدة للإجهاز على ما تبقى من قوة لقوى اليسار والتي تعززت مواقعها مع قيام الوحدة، ولكنه توجس من هذه القوة التي استخدمها كسلاح لسحق اليسار، فأراد أن يوازنها بإيقاظ المكون الاجتماعي والثقافي الزيدي في كيان المجتمع اليمني، وبعد عدة حروب مع هذا المكون، أراد البحث عن مكون آخر يوازن به هذا الخطر الداهم الذي صنعه، فالتفت إلى السلفية، ولكنه وجدها أقل شأناً وأكثر خطراً على تحالفاته الدولية فتجاهلها. الآن وصلت هذه المعادلة السياسة إلى نهايتها، لم يعد هناك بدائل جديدة يمكن أن تنخرط في لعبة وفي معادلة المركز والبدائل، فالبدائل نفسها قد نمت وأصبحت مراكز. فالحوثي أصبح مركزاً، والانفصال أصبح مركزاً، واللقاء المشترك أصبح مركزاً، وأصبح النظام نفسه مجرد مركز من هذه المراكز، لم يعد بإمكانه أن يضرب أحد هذه المراكز بالآخر، ولا أن يصنع مركزاً جديداً، أو يلغي مركزاً قائماً ليحل محله آخر، وهذه هي النقلة النوعية التي حدثت في المعادلة الحاكمة، من معادلة تتكون من مركز يتحكم في بدائل، إلى معادلة تتكون من مراكز لم يعد بإمكان أي منها أن يلغي أو يتحكم بالآخر، إذاً هذه هي المعادلة الجديدة الحاكمة اليوم التي أطلت برأسها من سقوط معسكر الزعلاء في حرف سفيان، والتي تجسدت في خطاب مغاير للنظام، ينبئ بملامح مرحلة قادمة تجسد حقبة جديدة من عمر النظام، هذه المعادلة الجديدة التي غيرت الخطاب السياسي، يفترض فيها أن تغير السياسة نفسها، فهي تحتم على النظام التحول من دور الحاكم إلى دور الحكم، معادلة المركز والبدائل مكنت المركز من أن يكون حاكماً، أما معادلة اليوم، معادلة المراكز فلن تمكنه إلا من أن يكون حكماً، حكماً بين أنداد متصارعين، إذا كان رأس النظام قد أدرك مغزى التحول في موازين القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية على الأرض، والذي جسده تغير مماثل في خطاباته الأخيرة، فإن بإمكانه أن يستمر كحكم وكعامل توفيق بين متصارعين أنداد، ومعنى هذا أن عليه أن يقلع عن سياسة توريث اليمن وأبنائها لأبنائه، فلسنا متاعاً أو تركة يمكنه توريثها، عليه أن يدرك هذا جيداً، وأن يدرك خطورة ولا عقلانية ما يفعل، فمن الواضح للجميع أنه لم يعد هناك ما يمكن توريثه، وعليه أن يقبل بمبدأ المشاركة، وأن يستقيل من رئاسة الحزب الحاكم، ويجري انتخابات حرة يسلم فيها الحكومة إلى من يحظى بثقة الشعب، وأن يقلص صلاحيات منصب الرئاسة لمصلحة اللاعبين الجدد، الذين أصبحوا أطرافاً فاعلة ومؤثرة في المعادلة الجديدة، التي تجسدت في خطاباته الأخيرة، ربما دون أن يدري أو يدرك ذلك، وإن لم يدرك مغزى التغيير الجوهري، ومعنى المعادلة الجديدة، وأصر على الاحتفاظ بالكل، فإن النتيجة لن تكون أقل من خسارة هذا الكل، وربما خسارة الذات نفسها، أما اليمنيين فهم في وضع أسوأ من هذا كله، عليهم بكل بساطة أن يخرجوا من سلبيتهم وأن يتحركوا الآن، أو أن يعدّوا وأن يهيئوا أنفسهم لخسارة وطن. [email protected]