لفرض وحدة بات صناعها محصنين بات من المؤكد، عند معظم السياسيين، أن الحرب بطبيعتها عمل سياسي في التحليل الأخير يستهدف - أساسًا - تعديل ميزان القوى بين المتحاربين ليصبح الحق باطلًا والباطل حقًا، والعكس أحيانًا، والعدل ما تفرضه الحرب للقوي على الضعيف، أو على الأقل من وجهة نظره. وهو ما يعود بنا الى تعريف الجنرال البروسي الشهير (كارل فون) عن الحرب بأنها "عمل من أعمال القوة لإجبار العدو على تنفيذ مشيئتنا". ويؤكد الجنرال السابق أن الحرب في الحقيقة هي"عمل من أعمال السياسة"، أو أنها "استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، بهذا فكل الحروب الحديثة أو معظمها في النصف الثاني من القرن العشرين الى اليوم، لم تنته بالاستسلام من دون قيد أو شرط. بل انتهت كلها باتفاقات سياسية، (عدا الحرب اليمنية ضد الجنوب التي انتهت بإخضاع الشعب بالقوة)، بالإضافة الى الاعتقاد الجازم بأن النصر العسكري لا يضمن بالضرورة نصرًا سياسيًّا أو استراتيجيًّا. وعلى هذا النحو ينظر إلى الحرب بأنها سياسة، وينظر الى السياسة على انها صفقة، وبالتالي فالحرب تقع في دائرة الحسابات الخاصة بالمكسب أو الخسارة، أو هي بيع وشراء بأيدي صانعي هذه الحرب أو تلك. الشعوب - أحيانًا - تخسر أكثر مما تستفيد. هذا عن الحرب بشكل عام، فما بالنا عن حرب بين دولتين تربطهما اتفاق وحدة، كحالة الوحدة اليمنية الفاشلة، فماذا نسمي مثل هذه الحرب الخبيثة عند تصوير الحرب على انها صفقة سياسية، وأن السياسة بيع وشراء، فهذا يكسبهما استعارة المغامرة، حيث تنزع عنهما الصفة العقلانية لتعطيها استعارة جديدة أخرى هي المقامرة، فهذه هي الازمة لكل الحروب، لكنها في الحرب من اجل فرض الوحدة، كما هي الوحدة اليمنية، فهي اشد وأقسى وأكثر قذارة عن سائر الحروب الاخرى، لأنها تبدد العلاقات الإنسانية بين الخصمين المتحاربين، ولا تنهي علاقة الشراكة فحسب، بل تخلق العِداء المتوارث بين الاجيال عبر الزمن. فالمغامر كما تقول المعاجم: هو الذي يرمي نفسه في الشدائد. لكن الأمر هنا في المقامرة وفي فرض الوحدة بالحرب، فهو أمر يتعداه الى المخاطرة أوالمجازفة الى التعرض للشدائد من دون التثبت في النتائج. لماذا غامر وقامر نظام الجمهورية العربية اليمنية الى حد المجازفة أو افتقاد الرشد ضد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية؟، لا من أجل الوحدة التي سموا حربها بحرب الوحدة أو الموت، أو الحرب ضد الانفصال، بل على اعتبارها شكلًا من اشكال الربح أو الخسارة المادية، فهي حرب خاضها قادة تجار وصناع الحروب وضللوا على الشعب بها وراهنوا دومًا على مستقبل الحروب والغزو والفيد، كما هو الموروث لديهم، فلا يمكن أن يخطىء هؤلاء في تقديرهم الى مردود حرب الوحدة أوالموت بأنها مربحة طالما تمرسوا لها وتترسوا بها للوصول الى الصفقة على حساب الوحدة، والمراهنة عليها كأنها أية القداسة عندهم كما هي عند الرومان، وأساطير اليونان للانتصار، بما يملكونه من آلهة تساعدهم على تحقيق ذلك الانتصار. لقد صارت آلهتهم (الشماليون) في الحرب غير مسماة لكنها اعتبارية ورمزية وقيمية، مرتبطة بالقبيلة والنخوة وصفة الشجاعة، آلهة كسر العظم في سياق الصراع وفي وصف حمران العيون لرموز القبيلة وأفرادها. هذه النعوت والصفات لشخوص القبيلة في الشمال اتت من الصفة التجارية وأخلاق الثبات في نمطيتهم بالعيش وفرض البقاء أو حق البقاء للأقوى، القانون الدارويني المكتسح لقيم الطبيعة الانسانية والبشرية. هكذا بدت حرب العام 1994م بأبعادها المختلفة ضد الجنوب لتمسخ معنى الوحدة والتوحد بالصيغة التاريخية اليوم، ولتؤكد أن الوحدة بمضمونها الشعاراتي والخيالي تبدو غير واقعية، لأننا محكومون الآن بحقائق التاريخ التي يزيّفونها لفرض الوحدة، برسم أيقونة الشعب الواحد عبر حقب التاريخ. إن الحرب القذرة السيئة الصيت في العام94م، هي حرب فض الشراكة وإنهاء العلاقة واللحمة الوطنية، هي حرب إبادة للإنسان الجنوبي ولحريته وكرامته. هي حرب ليست كالحروب تظهر فيها الصفقة وينكشف فيها الربح أوالخسارة، لكنها حرب أسوأ أو أنكأ من أي حرب في التاريخ، لأنها تختفي فيها الصفقة وتؤول فيها مبادئ الربح إلى شرعية قيمية، وتنتفي فيها الخسارة لأن غطاءها الأخلاقي والديني والقيمي المضلل أكبر وأوسع وأشمل من أي غطاء لحرب قامت في التاريخ. تحت معنى القداسة والأمر الإلهي أو الواجب الديني أقيمت، وعلى الزيف والكذب والخداع باسم الرب والإله والمقدس نصبت، ليقع الشريك الجنوبي في شراك الحيرة والاحتيال المفروض؛ حتى أصيب الإنسان الجنوبي بالخبل والجنون من شدة الصفعة وهول الصدمة التي أصابته بمقتل، فلم يبق في ذهنه أو خياله أو عاطفته أو وجدانه شيء يقبل بالوحدة أو يتقبل حتى اسمها. مَن يقبلها مِن الجنوبيين هم أولئك الذين انتزعت من ضمائرهم صفات وسلوك الانسان الجنوبي، وهم الذين يشترون بآيات الوحدة ثمنًا قليلًا، باعوا دينهم بدنياهم على حساب شقاء إخوانهم، ودخلوا في المغامرة والمقامرة مع المنتصر في الحرب ليعيدوا انتاج الصراع القديم الجديد بين ابناء الجنوب، هؤلاء، كبر حجمهم أو صغر في جسم الدولة اليمنية الحالية، لا يمثّلون بالنسبة للجنوب سوى أفراد. يُخيل إليهم انهم الممثلون الحقيقيون للجنوب لشرعنة القضية باسمهم من قبل من خانوا الشراكة، فتصوروا بأنهم على مقربة من ان يحكموا الجنوب مع الشمال بعد تعاقدهم وتعاهدهم مع حمران العيون، وهذا محض وهمٍ لحلم زائف سيصحون منه فجأة، وعلى حين غرة لم يبق الحل بأيديهم لأنهم أفراد في النهاية. بعد عقدين من الحرب لو كان هناك إمكانية لفرض الأمر الواقع لتم ذلك، ولكن لأن وقع الحرب ضخم وفعلها قبيح في النفس الانسانية كونها حربًا كيدية، اعتمدت التضليل باسم الوحدة، وهي تفضي الى الغاء الانسان وقيمته وكرامته في سبيل اهداف انانية طمع بها الشماليون، وبالأخص المسؤولون والوجهاء مقابل طمع الجنوبيين بقيم الوحدة وكرامة الانسان ومستقبله. المحصلة اننا نقف اليوم بين متضادين يؤسسان لواقع جديد يسمى الوحدة بالقوة، لا قوة الوحدة، لكن ما يمثلها بالتالي هو الانسان كمتناقض يتمثل فيه على الواقع، الخير والشر، والجمال والقبح، والعفة والدناءة...الخ. هذه هي صورة الواقع الحالي كصورة للمواطنة بين سالب ومسلوب وغالب ومغلوب. ولذلك لا تمثل الوحدة الوطنية التي يبدو أنه لا يمكن الحديث عن أية وحدة، ولا يمكن أن تكون وحدة بين متناقضين، والوحدة عادة ما تكون بين متآلفين أو متكافئين أو متساويين، ومن لديه القدرة على صنع واقع جديد ليكون هذا التشابه أو التآلف بعد انفراطه بفعل الممارسات السيئة. الوحدة امر يتعلق بالنفس البشرية بما تحمله من خصائص؛ لا ترى ولكنها تؤثر، لا تلمس ولكنها تتحرك، لا تكون شكلا ماديا ولكنها تُشكل الواقع المادي. هذه هي الوحدة التي لا ترى ولا تلمس ولا تتشكل بصورة مادية هي الوحدة المطلوبة اليوم التي انتهت بحرب 94م القذرة. الممارسات اللا وحدوية والحرب وغرور المنتصر هي التي قتلت الوحدة، فليس من الغباء فقط لكنه من الغرابة أن ينادي شريك الوحدة أو النظام الحالي بالوحدة بعد تدميرها واستحالة عودتها وفقًا للأسباب التالية: 1 إن الذين دمروا الوحدة بالممارسات والتوجهات والأهداف الشخصية والأنانية والذين أساءوا للوحدة وللجنوب وأهله، ومن ارتكبوا جرائم القتل واستباحة الأرض والعرض وتدمير الدولة الجنوبية، ما زالوا يحكمون ويتقاسمون خيرات اليمن، ويعيثون فيها فسادًا إلى هذه اللحظة، وهم من سلب ونهب خيرات الوطن ورخاء المواطن لصالحهم وأسرهم وأقربائهم والعابثين معهم. وما زالوا يراهنون ويصنعون الأزمات، وبدلا من محاكمتهم، نراهم محصنين ومبجلين على حساب قيمة وكرامة ومعاناة الإنسان وخاصة الجنوبي، بل ويتوجون أنفسهم بالألقاب وفخر صناعة الوحدة، فأية وحدة تريدون بعد هذا العبث وقانون الغاب. 2- الاستمرار في الالتفاف على القضية الجنوبية لدفنها، وبالتالي دفن حق الإنسان الجنوبي وشرعية وجوده، ولا ينفك مؤتمر الحوار يختزل الشعب بنفر من المتحاورين الذين لا يمثلون إلا أنفسهم انطلاقا من رفض الشعب لعملية الحوار المشبوهة الذي لم يقم على الندية والتكافؤ التي اقتنع بها النفر من ذوي المآرب، منهم من انساقوا مع مصالحهم ودخلوا الحوار مكابرين لا محاورين لقضية الجنوب بل منتقمين من القيادة الشرعية الجنوبية، حاملين إرث الماضي في عقولهم المتصلبة، كما يطمعون وراء تكلسهم وتخلفهم أن يلبسوا أنفسهم قناع البطولة، بتضخيم أنفسهم برمزية الوحدة والتمسك بها بطريقة غير مباشرة، وهو ما ظهر بتحليل جذور القضية الجنوبية، التي عزيت الى العام 1967م، وهذا خلط عجيب لقضية لا دخل لها بما قبل الوحدة، إلا إذا كان الجنوب والشمال دولة واحدة عبر التاريخ كما يحلو لهم تفسير ذلك. فالعلاقة بين الجنوب والشمال بدأت منذ الوحدة عام 1990م، ونتحدى من يثبت تاريخ وحدة غير هذا، ولو كانت وحدة - كما يدعون - لما ظهرت قضية، بل مشاكل كما في الشمال. اما المشاكل الداخلية في الجنوب فلا دخل لها بالقضية، مهما كانت دافعًا للدخول في الوحدة. وهذا الخلط وجد من يستثمره للاستمرار في الظلم وفرض الوحدة بالقوة. 3-الوحدة الحالية وحدة مفروضة بناءً على مصالح وقناعة طرف ضد مصالح وقناعة طرف آخر، ولا توجد هناك بوادر حسن النية تجاه القضية الجنوبية وحلها. والمماطلة والتجاهل، والالتفاف عليها يؤكد عدم تقديم أي حل مرضٍ لها، أو أية مبادرة جريئة لحل قضية محورية، لسبب واضح، أن الذين يمسكون مفاصل السلطة الحالية من أعلاهم إلى أدناهم، لا يخلو أحدهم من إساءة أو انتهاك أو جرم أو تجاوز أصابوا به هذه القضية، الجميع إما مشارك أو مساهم أو فاعل رئيس في الإخلال، وأقلها منهم راضٍ أو ساكت عن الظلم، ولذلك ماتت الوحدة، وما بقي هو الإساءة للقضية الجنوبية. لا نقول للممسكين بالسلطة اليوم: اقتلوا أنفسكم، ولكن نقول لهم غادروا السلطة رحمة بشعب الشمال والجنوب، وابتعدوا عن اللعب بقضاياهم، واخضعوا للقضاء إذا كنتم تتباكون عن الوحدة، أو كما تدعون أنها فريضة من الله. أو اتركوا هذا الشعب يغادر حبالكم النتنة التي تتمسكون بها لجني فوائدكم على حساب عناء وشقاء هذا الشعب المظلوم. ولن يرفع عنه الظلم إلا برد اعتباره ورد حقوقه وتعويضه عن كل جرم أو انتهاك أو إساءة ضده. وما يحدث من حوار أو خوار الثيران هو لتأزيم القضية الجنوبية، هكذا تبدو الأحداث والتوجهات السياسية لغرض خلق صراع جنوبي جنوبي، وإلا فاسألوا من يدعون تمثيل الشعب الجنوبي فيما يسمى بالحوار: هل هم مقاولون لفرض الوحدة على الشعب الأعمى؟، الذي يقف مع من يرفع السقف ضد الوحدة كما قال القادة الجنوبيون في الحوار بعظمة لسانهم، أم هو تنفيذ لرغبة اسيادهم في دول الجوار؟، أو زهوًا وغرورًا بقوة الدول الكبرى راعية المبادرة والحوار؟. لكن هيهات لهم ان يكسروا إرادة الشعب الجبار، بإذن الله الواحد القهار. والحمد لله رب العالمين. صالح محمد مسعد (أبو أمجد) 28-6-2013م