ظلت تهامة اليمن تعيش في طي النسيان وتحت وطأة التهميش لعقود طوال، ولم تكن يومًا بارزة في المشهد السياسي أو الثقافي والاقتصادي للجمهورية اليمنية إلا ما ندر، وعُدّ المواطنون في ذاك الإقليم - على أحسن تقدير - مواطنين من الدرجة الثانية، وعلى الرغم من امتداد ذلك الإقليم وجغرافيته السياسية التي تشكل جزءا كبيرا من اليمن إضافة إلى موقعه الحيوي المطل على المنفذ الغربي لليمن على العالم الا أن ضعف الرؤية وتخبّط الساسة على مدار عقود من الزمن حالت دون إعارة هذه المنطقة أي اهتمام سياسي أو اقتصادي وتنموي، ونتيجة لذلك ظل هذا الإقليم يحتوي على المعدلات الأكثر ارتفاعا من المناطق اليمنية من حيث الفقر والبطالة والأمية والجهل، إضافة إلى الأمراض التي تفشت في كثير من المناطق التهامية دون أية التفاتة حقيقية لذلك الوضع الذي يندى له الجبين الإنساني، ناهيك عن سرقة الأراضي وطرد القرويين من قبل جهات نافذة قريبة من مركز القرار الرسمي بالدولة.. إضافة إلى تدمير البيئة التهامية من خلال دفن العديد من المخلفات والنفايات السامة والمحرمة دوليا، وهو ما بدأت ملامحه بالظهور من خلال الأخبار والتقارير التي تحدثت عن هذا الأمر، ومما يدل على ذلك الحدث الأبرز، وهو العثور على نيران تتوهج من فتحات أرضية فى منطقة (حي السلام) جوار أحواض المجاري شرق شارع جيزان بمدينة الحديدة، وقد صرح المهندس "محمد الصغيري" الخبير الجيولوجي أن سبب هذه النيران هي مواد كيميائية خطيرة وذات نسب إشعاعية كبيرة، تم نقلها من منطقة جميشة في ثمانينيات القرن الماضي إلى هذه المنطقة ودفنها هناك. إضافة الى العديد من النفايات السامة التي دفنت بالسهل التهامي لعقود من الزمن في مختلف المناطق كالمخا والدريهمي والصليف.. هذه الممارسة وغيرها من الممارسات الإجرامية بحق الإقليم التهامي (أرضًا وشعبًا) ولّدت شعورا لدى المواطن بالامتهان والقهر مما استدعى الرفض لها بكافة السبل، وهو ما تمت ترجمته فعليا من خلال العديد من الفعاليات والمسيرات والمظاهرات التي تتم، والتي تبنّى أغلبها ما يسمى بالحراك التهامي الذي ظهر في مطلع العام المنصرم.
نشأة الحراك التهامي بين الواقع التهامي المرير، وفي ظل تداعيات الأحداث في الفترة الأخيرة للمشهد اليمني سياسيا وأمنيا نشأ ما سمي بالحراك التهامي، وتعود بداية نشأته إلى مطلع شهر يناير من العام المنصرم.. حيث استطاع الحراك التهامي أن يتصدر العديد من الأحداث، ولقد كان واجهة للعديد من القضايا التي اختزلت المشهد الأمني، وخصوصا الاختلالات الأمنية الأخيرة.. وكان من ابرز تلك الأحداث هو هجوم بعض مسلحي الحراك على عبّارة مصرية واحتجازها مع كل من كان على متنها بتهمة استنزاف الثروة السمكية ودخولها للاصطياد بالمياه الإقليمية اليمنية، وهو ما استدعى القوات الأمنية إلى التدخل من أجل إطلاق العبّارة المصرية، ومن على متنها، ونتيجة لذلك التدخل من قوات الأمن المركزي المدعومة من قوات الحرس الجمهوري المتواجدة بالمحافظة سقط العديد من الناشطين بالحراك بين قتيل وجريح في المواجهات التي تمت بحي حارة اليمن في مدينة الحديدة مما استدعى حينها أن يوقف الرئيس عبدربه منصور هادي زيارته في موسكو في شهر ابريل المنصرم، والعودة سريعا ليهبط بطائرته في مطار الحديدة لمحاولة السيطرة على الوضع وحلحلته.. كانت هذه الحادثة وغيرها أهم حيثيات بروز ما سمي بالحراك التهامي على الساحة الإعلامية حينها كان يتحدث مراقبون عن حتمية اختفاء أو تلاشي هذا الحراك نتيجة للكثير من عوامل أهمها عدم وجود قاعدة شعبية عريضة تحتضن هذا الحراك وعناصره, لعدة اسباب أبرزها أن المشائخ والأعيان في تهامة الذين عانى منهم المواطن التهامي كثيرا، كانوا على سدة هذا الحراك وهؤلاء أو على الأرجح أغلب هؤلاء هم سبب العديد من الأوجاع والآهات التي تسببت للمواطن التهامي, حيث كان وما زال أولئك المشائخ, الذين امتهنوا المواطن وداسوا كرامته لصالح العديد من النافذين والمتسلطين المتواجدين في مراكز صنع القرار للدولة هم الوجوه الأبرز التي تصدرت المشهد الحراكي, حيث إن أيادي هؤلاء هي التي كانت تنهب أراضي البسطاء وتعمل على تسليمها للنافذين في الصفقات الجائرة التي تتم في العديد من قصص السطو والنهب والاستيلاء على اراضي القرويين ومما يثير الاستهجان أنه بين عشية وضحاها أصبحت الخطابات والمهرجانات التي يقيمها هؤلاء هي التي تختزل المشهد الحراكي في حين أنهم المسئول الاول والمشارك الأكبر في باعث الألم التهامي، وهي أهم المفارقات العجيبة التي يتحدث بها بعض المراقبين للشأن التهامي أن يتحول بعض وجهاء تهامة والذين ساعدوا وعملوا بالسطو على أراضي المواطن البسيط وبيعها لنافذين هم من يتحدث عن حقوق القرويين ووجوب مناصرتهم، الأمر الذي استنكره العديد من ابناء تهامة..!! ومما يجدر ذكره - أيضا - أن الحراك التهامي دأب على تبنّي لغة مناطقية ضيقة وشعارات عنصرية لم تنل رضا المواطن التهامي، ومن أبرز تلك الشعارات والهتافات "تهامة للتهاميين فقط "، وهو ما أعقبه الاعتداء ومضايقة العديد من أصحاب المحلات التجارية بمدينة الحديدة، الذين وفدوا إليها للتجارة من محافظات أخرى.. إضافة لذلك إعداد المسيرات إلى منطقة باب الناقة، والتي ابتدأت في منتصف مارس من العام 2012م، ورفع علم اعتبروا انه العلم المستقل للإقليم التهامي وقطع الطريق في تلك المنطقة مع الهتاف بالشعارات التي تنادي بطرد المواطنين من أبناء المرتفعات وإغلاق تهامة أمامهم ومنع دخولهم إليها. يذكر أن باب الناقة هو أحد النقاط الجغرافية الطبيعية التي تفصل بين السهل التهامي والمرتفعات الجبلية، ويقع على خط (صنعاء - الحديدة). هذه الأحداث وغيرها ولدت امتعاض المواطن التهامي من تلك التصرفات، وهو ما أفقد الحراك التهامي ما تبقى من الحاضنة الشعبية له، الأمر الذي أدى الى انحساره وتلاشيه في العديد من المناطق التهامية.. وإضافة لكل ذلك برزت العديد من المشاهد الجدلية بين عناصر الحراك داخليا، أبرزها في الرؤية السياسية للقضية التهامية، الأمر الذي شطّرهم إلى كيانين، كيان ينادي بأن القضية التهامية هي "قضية احتلال أرض يجب تحريرها"، وتغييب لهوية شعب يجب إعادتها"، وهذه الرؤية مبنية على استدعاء لأحداث تاريخية أهمها استقلالية تهامة عن صنعاء لقرون خلت في عهد الدويلات التي كان مركز حكمها في مدينة "زبيد"، إضافة إلى استدعاء حروب التحرر التي قادتها قبائل تهامة ضد حكم آل حميد الدين.. أما الكيان الآخر "فهو يتوقف عند القول: إن تهامة تعيش تحت الظلم الذي يجب العمل على رفعه عنها".. وبين هذا وذاك بدأ تلاشي وانحسار ما سمي بالحراك التهامي، وهو ما تنبأ عنه العديد من المراقبين مما عدا أحدهم حينذاك بوصف هذا الحراك انه ولد ميتا.. القضية التهامية تعد القضية التهامية عنوانا عريضا لفصول من البؤس التي لا تنتهي في شتى المجالات الحياتية. وهي العنوان الأبرز لتجاعيد الحزن التي ارتسمت على قسمات وملامح المواطن التهامي الذي يعد الاكثر معاناة على مستوى الوطن، وهو الأمر الذي لا يمكن أن ينكره أحد، وبدلا من أن تكون بساطة وطيبة المواطن التهامي مكسبا عريضا ليحظى باحترامه وقبوله بين بقية المناطق اليمنية, اعتبرها البعض مطية لانتهاك حقوق المواطنين وحرمانهم من ابسط مقومات الحياة الكريمة.. من إهمال التعليم، مرورًا بعزوف التواجد الخدمي الصحي إلى انعدام كامل للبنية التحتية في تلك المناطق, هذه المعطيات وغيرها من عناوين الحرمان التي جعلت المواطن التهامي يعيش خلف دروب الحياة الكريمة وخارج إطار التاريخ في وسط معاناة لا تنتهي.. وإضافة لكل ذلك زحفت تماسيح الأراضي إلى مناطقهم وقراهم ومزارعهم لتنهب كل ما يحلو لها دون أي رادع قانوني أو ديني أو حتى إنساني يمنع هؤلاء الذين اعتبروا قرى ومزارع المواطنين هناك لقمة سائغة لهم حينما انتزع الجشع الرحمة من قلوبهم وأعمي أبصارهم.. ناهيك عن تدمير البيئة التهامية من خلال دفن العناصر السامة والمشعة المحرمة دوليا في أراضيها، وبين ثنايا هذا المشهد الأليم ظل المواطن التهامي دائما وأبدًا هو من يدفع الثمن وينال الأوجاع؛ ليعيش في أمواج من المعاناة التي لا تنتهي في زمن علا فيه منطق البطش والبقاء للأقوى بعد أن استبدل القانون والدستور بشريعة الغاب الذي عانى منها كل أبناء الوطن دون استثناء.. نجد بالمقابل أن هذا الإقليم التهامي يمتلك العديد من المقدرات الحيوية التي يستند عليها جزء عريض من مدخلات الخزينة العامة لليمن كالموانئ والثروة السمكية، إضافة الى الممر المائي المهم "باب المندب".. زد على ذلك التقارير الجيولوجية التي تتحدث عن وجود الثروات المعدنية والنفطية بهذه البقعه من الوطن.. ناهيك عن الثروات التي يتم استنزافها دون ان يحظى أبناء تلك المناطق بأي عائدات من مدخلات تلك الثروة في أي من المجالات التنموية، وهو حال جبال الملح في مدينة الصليف التي ترفد اليمن بأكبر العائدات المالية.. إضافة الى ذلك وجود أراضٍ زراعية شاسعة لو تم استغلالها، تكاد تفي بالأمن الغذائي لليمن والجزيرة العربية ككل، ومما يؤثر في هذا الجانب هي مقولة الرئيس اليمني الراحل "إبراهيم الحمدي" حين قال لو زُرعت تهامة لكفت اليمن إلى يوم القيامة"، إلا أن الرؤية الصحيحة لتنمية الوطن ظلت غائبة بين مشهد الأزمات والمناكفات السياسية التي عصفت باليمن، مرورا بالعديد من الحروب التي مر بها الوطن داخليا ناهيك عن التخبط وغياب الرؤى المتينة وعجز النظام السابق عن بناء اقتصاد وطني راسخ، وهو السبب الذي ولد الغبن والامتعاض لدى كل اليمنيين على حد سواء. ظُلِمت تهامة مرات عديدة منذ ردح من الزمن إلا انها ومنذ انطلاقة ثورة شباب فبراير ظُلِمت مرتين، الأولى: "حين تصدر المشهد الحراكي العديد من الوجوه التي اعتبرها المواطن التهامي سببًا ومشاركًا فعليًّا في معاناته"، والثانية: "عندما لم يُعطَ الحجم الحقيقي للقضية التهامية حين لم يتم الاعتراف بقضيتهم في طاولة الحوار الوطني، وتم تجاهلها تجاهلًا شبه تام إلا على هامشهم الجلسات الحوارية التي تتم".. الدور المنشود للنخب الوطنية من أبناء تهامة تعد النخب الأكاديمية والمثقفة هي أداة التنوير للأمة، ويعول على هؤلاء الدور الأبرز في صناعة وتكوين ثقافة الشعوب وفق تفكير منطقي وسليم مبني على أسس عقلانية صحيحة ترنو إلى إعادة بناء واقع الامة اليمنية المنشود. ويعول الكثيرون من أبناء تهامة على هذه النخبة العديد من الآمال فهي الوحيدة القادرة على صناعة ثقافة ورأي عام بين الأوساط التهامية وخلق فئات مجتمعية قادرة على العمل من أجل انتزاع حقوق أبناء تهامة في المواطنة المتساوية ورفع الظلم والتهميش وإزالة ركام الحرمان من على كاهل المواطن التهامي عبر النضال السلمي في إطار الحق المشروع الذي يكفله الدستور والقانون. فلن يستطيع رفع المعاناة عن تهامة الا ابناء تهامة أنفسهم، وعليهم يقع جزء كبير من تحمّل مسؤولية النهوض بعقلية المواطن التهامي وانتشالها من الاستكانة المفجعة والصمت المطبق الذي جثم على صدور العديد من ابناء تهامة طيلة ردح من الزمن.. ويتحتم على هؤلاء انتشال وانتزاع اليأس والإحباط من إمكانية الخروج من الواقع الأليم الذي يعصف باليمن ككل، وإن كانت تهامة أخذت حظًّا وافرًا منه.. كما يعول عليهم - أيضًا - تحديد الرؤية الوطنية الواضحة لأبناء تهامة، والعمل على إدماج الجميع في مشروع الوطن الأم من أجل سحب البساط على كل من تسول له نفسه العمل على إذكاء الفتن المناطقية والأزمات.. مع العلم أن هناك العديد من الخلايا والفئات المنتفعة في المجتمع التي لا يمكنها ان تنشط وتعمل إلا بين التهاب النيران وبين اشتعال الازمات والفتن، ومما يجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو دخول العديد من الأطراف الداخلية المرتبطة إقليميا على إيقاع القضية التهامية من اجل كسبها كورقة رابحة للضغط والاستفادة منها في حسابات ومصالح إقليمية، الأمر الذي سيعمل على اشتعال المزيد من النيران إن تسنّى لهم ذلك، وهو ما يضاعف معاناة تهامة أرضًا و إنسانًا. آمال المواطن التهامي في لقاء جمع بين مبعوث الأممالمتحدة لليمن "جمال بن عمر" مع بعض من ممثلي النخب التهامية، وأثناء كلمة ابناء تهامة، التي ألقاها المهندس "محمد بن عمر مؤمن" - نقيب المهندسين الطيارين باليمن، وعضو الهيئة الإدارية للملتقى العام لأبناء تهامة - قال في كلمته: نحن ابناء تهامة نطالب الأممالمتحدة عبر السيد جمال بن عمر إعادة ضم تهامة إلى الجمهورية اليمنية من أجل مساواتها ببقية المناطق اليمنية والعمل على إعادة دمج المواطن التهامي في ظل المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية واحترام القانون وحقوق الإنسان التي تكفّل بها الدستور لكل أبناء اليمن. وهو بذلك استطاع ان يُعبذر عن لسان حال المواطن التهامي وأمله للعيش الكريم والحياة في ظل الامن والاستقرار، وإعادة الحقوق والأراضي المنهوبة لأهلها، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية والمضي في مسيرة البناء والتنمية للواقع المأمول للمستقبل اليمني ككل، وبجميع مناطقه ومكوناته، وهو ما يطمح إليه كل أبناء السهل التهامي لليمن المنشود مستقبلا.