بعض مظاهر الأعمال العظيمة تبقى حية في وجدان الناس، وبعضها يرمى إلى مزبلة التاريخ، فيما يحتفظ بها البعض في المتاحف الوطنية لتكون بمثابة تذكير للناس بحقبة من الزمن مضت بحلوها ومرها. لقد رأينا الكثير من المواطنين الألمان يحتفظون ببعض حجارة جدار برلين الذي تم هدمه عند إعادة تحقيق وحدة الألمانيتين الشرقية والغربية، وهي الوحدة التي تزامنت مع إعلان الوحدة اليمنية قبل 18 عاماً، فقد قرر الكثير من المواطنين الألمان تحت مشاعر الفرح بعودة الوحدة إلى بلادهم الاحتفاظ، ولو بجزء بسيط من حجارة الجدار في منازلهم، قبل أن تأتي الحكومة الألمانية وتأخذ الكثير من هذه الحجارة وتحتفظ بها في أماكن مخصصة في متاحفها الرسمية لتذكر الألمان بعهد من التشطير انتهى بين الألمانيتين. وفي اليمن لم يفرح المواطنون في يوم إعلان وحدتهم في الثاني والعشرين من مايو 1990 قدر فرحتهم برؤية برميلي الشريجة وكرش في غير موقعيهما، حيث كانت عملية إزالة البرميلين نقطة تحول في مشاعر اليمنيين جميعا، فمن ذا الذي لم يكتوِ بظلم نظامي البرميلين، سواء في الشمال أم الجنوب على السواء؟. الكل يتذكر كيف كان المحسوب على نظام برميل الشريجة في الشمال يعاني الكثير عندما يريد أن يتجاوز حدود نظام برميل كرش في الجنوب، والعكس صحيح، وقد اضطر الكثير من اليمنيين إلى اختيار طرق ملتوية للوصول إلى أهله وأقربائه في الشطر الآخر، حتى وإن كانت هذه المغامرة ستكلفه حياته. وبمناسبة الحديث عن جدار برلين وبرميلي الشريجة وكرش؛ فإن الكثير يتساءل عن مصير البرميلين اللذين كانا إلى ما قبل 22 مايو 1990 يرسمان الحدود بين شطري البلاد، وهل فكر مسؤولونا في الاحتفاظ بهما ليكونا عبرة لمن لم يعش لحظات الفرقة والانقسام في عهد نظامي البرميلين؟ أحد الظرفاء ممن ينتقدون الكثير من المظاهر السلبية التي حدثت بعد تحقيق الوحدة، وما بعد حرب العام 1994 بشكل خاص، علق على هذه القضية بالقول إن أحد البرميلين، وهو هنا برميل الشريجة، الذي كان يمثل نظام الجمهورية العربية اليمنية سابقا، احتفظت به الدولة الجديدة في المتحف الوطني؛ فيما برميل كرش، الذي كان يمثل نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً، موجود الآن في حظيرة للبقر في أحد بيوت سكان منطقة كرش!. وبصرف النظر عن صحة هذه الواقعة من عدمها، فإنها تعكس حالة من عدم الرضا عن مصير البرميلين، أو بالأصح عن مصير البرميل الجنوبي، الذي امتهن وبقي في حظيرة للأبقار؛ فيما رفع من قدر البرميل الشمالي بأن وضع في المتحف. الأهم هنا ليس في مصير البرميلين اللذين ذهبا إلى غير رجعة، سواء ذلك الذي ذهب إلى المتحف أم إلى حظيرة الأبقار، بل في البراميل الكثيرة التي بدأت تأخذ طريقها إلى رؤوس بعضنا، فهذه البراميل هي أخطر من برميلي الشريجة وكرش، ومن الصعب علينا إزالتها، ولو أحضرنا إليها كل مطارق الدنيا. من السهل أن تزيل برميلاً من الحديد وضع على الطريق لهدف مؤقت، لكنك ستجد صعوبة في إزالة البراميل الكثيرة من عقول الناس الموضوعة لهدف بعيد، فمثل هذه البراميل يصعب اجتثاثها بسهولة. من هنا يجب علينا محاربة من يضع مثل هذه البراميل في عقول البشر، ولا يجب علينا أن نفرح كثيراً بأننا تخلصنا من برميلي كرش والشريجة، ذلك أنني أخشى أن يأتي يوم فنتعامل فيه مع برميلين وأكثر. *(السياسية)