قبل ثلاثة أعوام من اليوم بدأت الاهتمام بالشأن العام وقضايا المجتمع المدني .. هذا ليس خبرا هاما لكن المهم هو أني اعترف أنني مع كل ندوة أو فعالية أو دورة تدريبية كنت أشعر بأن كل هذا هو عمل منفصل عن الحياة الحقيقية، كنت أحس أنني أدخل عالما جديدا له مفرداته الخاصة وأدوات حياته أيضا، أدرك أنني بدأت التعامل مع "نوعية جديدة من سكان المنطقة" تتحدث عن أمور كثيرة بألفاظ معقدة ويتحدث عنهم "بعض الناس" لكن كما لو كانوا من سكان المريخ، لكني اكتشفت بعد ذلك أن هذا الوسط يخيل إليه أنه نخبة المجتمع وأنه يعالج مشاكل المجتمع وأنه يتصدى لهموم المجتمع .. مع ان المجتمع بعيد عنه كل البعد فلا أحد من سكان "المحوى" يهتم بما يقال عن المهمشين في ندوة تقام في فندق موفمبيك على سبيل المثال كما أن حرص وزارة حقوق الإنسان على مناقشة تقرير اليمن الدوري لوضع حقوق الإنسان في اليمن في فندق الشيراتون لا يعني أن حقوق الإنسان أصبحت مهمة بقدر ماتعني أن ضحايا التعذيب والتهميش لن يتمكنوا من الدخول لتكحيل أعينهم بسكان المنصة، ولن يهتم سكان قرية - لا أعرف اسمها وأتخيلها بعيدة في محافظة صنعاء – لن يهتموا للجدل الدائر في موقع نيوز يمن حول زواج القاصرات لأنهم لا يتصفحون نيوز يمن بالطبع وبالتالي فمهما كتب شوقي القاضي من الآيات البينات في تحريم زواج القاصرات فإن لحية أطرف متعالم في أي طريق فرعي يمكنها أن تكنس كل مايقال من جدل فقهي وعلمي وقانوني وبجواره المصادر العلمية والتقارير الطبية . خرج العالَم من ثقافة الإقطاع والبرجوازية لتبدأ ثقافة المجتمع المدني في خلق نفسها وتشكيل ملامحها منذ بداية عصر النهضة الأوربية إلى اليوم، هذه معلومة لم أكن أعلمها نهاية الأسبوع الماضي وعرفتها من تعقيب الأستاذ عبد الباري طاهر على ورقة أحزاب اللقاء المشترك في ندوة من ندوات التشاور الوطني خصصت لمنظمات المجتمع المدني .. عبد الباري طاهر قال أشياء أخرى منها اعتراضه على أسلمة المفهوم وبتره من أصله التأريخي أي طرازه الأوربي وبالتالي استيراد نسخة شائهة من تجربة شديدة الحساسية لازالت تطور نفسها إلى اليوم .. كأطراف الكون ، ووجد الجميع صعوبة في تذكر وثيقة استقلال العمل النقابي التي وقعت عليها الأحزاب اليمنية بعد الوحدة .. لا أحد يريد أن يتذكر . هذه الندوة التي أراد لها منظموها أن تكون جزءا من صورة يحاولون إكمالها جاءت بغير ماتوقع منها فهي ندوة يمكن لها أن تمثل شرخا في الصورة الأصل لا في البرواز فورقة أحزاب اللقاء المشترك التي اشتكت من استيلاء الحزب الحاكم على النقابات وتحزيب العمل النقابي كان مقدمها هو الأستاذ أحمد الرباحي نقيب المعلمين الذي يفترض به أن يمثل النقابة وليس الحزب .. على الأقل في مناسبة كهذه .. وبدت الندوة مولودا ناقصا لم يُعَد له جيدا بفعل الاستعجال الأمر الذي أظهره تعليق الأستاذة جميلة علي رجا التي طلبت أن يتم التواصل معها مبكرا في المرات القادمة (تفاؤل) مؤكدة أنها لم تكن تعلم أنها على موعد مع الندوة إلا قبل يوم وليلة ورغم ذلك فقد قالت مايمكن أن يكون مفيدا مثل انتقادها للتركيز على صنعاء واعتبار ماعداها هوامش والعمل لأجندة غير واقعية بفعل الحاجة للتمويل وتركيز العمل على الأجندة السياسية والحقوقية وإهمال الاقتصاد والاجتماع وغيرهما من المجالات الحيوية، حسنا .. يمكننا أن نصفق لجميلة علي رجاء عندما ختمت حديثها قائلة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .. ونحس أنها قالت الكثير مما في أنفسنا لكننا لن نهرب من حقيقة مفادها أننا سنخرج بعد قليل من مقر الحزب الإشتراكي أو بالأصح من بقية نصف مقر الحزب الاشتراكي وليس لحديثنا صلة بضجيج الباصات وازدحام السير في الشارع المقابل، لن نتذكر ما قيل في الندوة إلا قليلا في المقايل الصغيرة التي تفرقنا فيها وسيكون ذكرنا لما حدث من زوايا القيل والقال والنقد الجارح لأصحاب المقايل الأخرى سيقول أحدهم أعجبني فؤاد دحابه لأنه قال "أنا لا أعترف بالدولة" التمرد فعل جالب للإعجاب لكن الإعجاب ليس له صلة قرابة بالحماية كما أن الرأي العام حاكم مستبد وصاحب رغبات سادية ويستمتع بتعذيب من أحبهم أو أحبوه ، وعلى الرغم من أن كلمة فؤاد دحابة كان يمكن أن تثير عليه عاصفة قاسية إلا أنها لم تفعل ربما لأن كل الصحفيين الموجودين تابوا إلى الله من صنع الفقاقيع .. ليست هذه هي الحقيقة .. الحقيقة هي أن الجميع لا يجدون ما يشجعهم على التغطية الجيدة . هذه الندوة التي حملت عنوان واقع منظمات المجتمع المدني كان في خط سيرها الزمني الكثير من التوافقات الرمزية منها غياب قيادة أحزاب المشترك حيث لم يحضر سوى الأستاذ حسن زيد بشكل خجول أما الشيخ حميد الأحمر والدكتور ياسين سعيد نعمان والأستاذ العتواني فقد كان لكل منهم واقعه الخاص الذي يشغله عن واقع المنظمات، قيادات المجتمع المدني أيضا غابت عن الندوة ، لا اعني الجميع طبعا لكن من المهم الإشارة إلى غياب محمد ناجي علاو مثلا أو أمل الباشا أو عز الدين الأصبحي أو سعاد القدسي، حضور مثل هؤلاء وإشراكهم في الحوار أصالة أو إنابة هو مقياس دقيق لواقع المنظمات إن سلبا أو إيجابا وأهم من حضورهم هناك يجب أن يحضروا في وعيهم الشخصي ليتمكنوا من توصيل مفاهيم عملهم "الطوعي " إلى المستهدفين وأقصد بالمستهدفين هنا أي أفراد المجتمع افتراضا وليس المنظمات المانحة. بعد يوم من ندوة المشترك كانت مؤسسة العفيف منشغلة بمحاضرة للدكتور فؤاد الصلاحي وموضوعها أيضا المجتمع المدني .. انتقد الدكتور غياب التواصل مع أنه لم يكن موجودا في ندوة المشترك .. له مبرراته لكن يغدو الأمر مجرد تبادل للجدل وهو أمر تجيده "النخبة" كتعبير دقيق عن القدرات الذهنية، أضاف الصلاحي أن تركيبة المجتمع لا تتسع بعد للعمل المدني وقطع الطريق على الأمل ومعه في ذلك الكثير من الحق خاصة مع منظمات تمثل المجتمع المدني بمعزل عن المجتمع .. أي أنها تختطف مفهوم المجتمع المدني بسبب غياب الممثل الحقيقي وكان للأحزاب والإسلام السياسي دور كبير في رأي الصلاحي في تهجين المجتمع .. والغريب انه أيضا ختم محاضرته بختام جميلة رجاء .. أقول قولي هذا وأستغفر الله ، لربما أصبح الحديث عن المجتمع المدني ذنب يوجب الاستغفار كالحديث عن الغائب تماما. يمكنني بعد ثلاث سنوات من البحث والتساؤل أن أقول أن منظمات المجتمع المدني في اليمن في الغالب هي عبارة عن وسط فاسد وغير نزيه في علاقاته مع ذاته ومع الآخرين في الداخل أو في الخارج ويمكنني أن أقول أن المنظمات التي تطالب بتحكيم القانون تفتقر في داخلها إلى أبسط قواعد الإدارة الرشيدة والتي تناهض التوريث يديرها أشقاء والتي تطالب بالتداول السلمي للسلطة لا يمكن لأحد فيها أن يتنازل عن منصبه الأبدي حتى لاتنهار المنظمة! لدرجة أن أحدهم سحب مائة الف دولار من رصيد جمعية خيرية كان أمينها العام وخاف أن يسقط في الانتخابات! ويمكنني أيضا أن أقول أن منظمات المجتمع المدني ليست سوى جزء من الأشكال الشائهة للمعاني الجميلة، وهي نتاج طبيعي لحالة الفوضى السائدة، ولا تختلف كثيرا عن بقية أدوات الفساد، كما أنها ليست سوى دكاكين معفاة من الضرائب تبحث عن أجندة ممولة للبيع وإن لم يكن لها أي علاقة بالمجتمع، وترهن نفسها لمن يشتري ويحمي وتسخر القضايا العامة في خدمة الأهداف الخاصة . منظمات مجتمع مدني ليس لديها مواقع الكترونية وتشكوا من عدم قدرتها على التواصل مع الجهات المعنية! ومنظمات أخرى تعمل في مجال الشفافية طوال العام مع أنها لم تنشر أبدا أي تقرير عن مصادر تمويلها! ومنظمات يتيغر اسمها مع كل بيان تصدره تبعا لنشوة الكاتب! ومنظمات ليس لها وجود سوى لوحة ضوئية وحساب بنكي! ومنظمات تعلن عن مشاريع الشراكة ثم لا تعلن عن شراكة المشاريع! سأتخلى عن ذكر منظمات القطيع السائب وأتوجه بثلاثة أسئلة إلى ثلاث منظمات هي الأنظف في الصورة : لمنتدى الشقائق .. وقعتم مع هولندا على برنامج الحماية القانونية للنساء والأطفال ضحايا العنف الجنسي وقلتم أن المنتدى سيقوم بالعديد من الأنشطة في إطار البرنامج والتي تستهدف تقديم الحماية للضحايا مثل إنشاء مأوى للضحايا "بيت الشقائق"، وخط ساخن لاستقبال الشكاوى، ومركز استماع للضحايا. وإضافة لذلك سيقدم المنتدى خدمات طبية ونفسية للضحايا، وسيقوم بتدريب وتأهيل كل من له علاقة بالحماية ويتعامل بشكل مباشر مع الضحايا، ولم ير شيء هذه الوعود النور سوى الخط الساخن وهي خطوة جيدة ولا شك .. لكننا لا نجد شفافية نعرف من خلالها أين وصل المشروع ومتى سينفذ وكيف .. هل سينفذه المنتدى منفردا أم بالتعاون مع منظمات أخرى ؟ سيستعين بخبراء أم سيدار من الداخل؟ .. لمنظمة هود .. وعدتم بتطوير قدرات الفرق العاملة في المحافظات وتأهلي أفرادها للعمل بشكل لامركزي وحين سئلتم عن احد فرقكم من قبل منظمة مانحة قلتم أن المنظمة لا تتعامل عبر فرق المحافظات .. بل تتعامل من خلال المركز! إذا كان الناس يصدقون المنظمة بفعل جهود متطوعيها فكيف سيكون الحال حين يدرك المتطوعون أنهم يتعرضون لعملية "خداع" ؟ للإعلاميات وصحفيات بلا قيود .. أنشأتما وحدتين إحداهما تلفزيونية والأخرى إذاعية ورأينا إنتاج تلفزيوني لامس هما من هموم المجتمع ولم نجد لوحدة الإنتاج الإذاعي انتاجا حتى الآن غير ملتقيات التشاور التي تشبه تشاور أحزاب المشترك مع أنني مستعد لو وجدت وقتا أن أنتج برامج إذاعية بجهاز الكمبيوتر العادي ولو كان لدي عشرة دولارات لأنشأت قناة راديو على ويب وبالطبع فأنا لست من الظرافة بحيث أطلب منكم القيام بذلك لكني –وغيري كثير- نود أن نتعلم الشفافية منكم بدروس عملية .. نود أن نتعلم كيف تختار المواضيع وكيف تنتقى السناريوهات وكيف تحتسب التكاليف .. ليست طلبات مستحيلة بقدر ماهي ثقيلة على قلوبنا كعرب ولعل أحدكم أو إحداكن الآن يتساءل في نفسه .. ومادخل هذا في الميزانيات ومواضيع الإنتاج ؟ كأنو جاب التمويل من بيت أبوه! اسئلتي التي وجهتها للمنظمات لا تعني أن هذه المنظمات محل شك مني بقدر ماتعني أنها الأقدرعلى الإجابة عن مثل هذه التساؤلات .. ختاما وحتى لا ينكر الفضل عن أهله ويحشر الجيد في زحمة الرديء فإني من المهم الإشادة بالمرصد اليمني لحقوق الإنسان الذي أقر تدوير المناصب العليا في مجلس أمنائه وهي الخطوة التي اتخذتها منظمة سجين كما أن جهود المنظمة اليمني للدفاع عن الحقوق والحريات تجعلها معدنا قويا في محيط من قش .. ومع كل ماسبق فإن الأمل يجب أن لا يخبو، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.