من خارج اليمن، تصفحت الانترنت الذي تحجبه عنا يمن نت وتليمين، في تصرف متخلف "دجاجي"، (ليس هناك مخلوق كالدجاج، يرتبك حين تتعرض لاي طارئ فيتحرك في كل اتجاه مماقد يوصلها الى الفخ الذي تعتقد إنها تهرب منه ولو هدأت وفكرت بهدوء لتجنبته). أو هو يعكس عدم الإدراك الشخصي الرسمي لأهمية وخطورة الانترنت، والذي تعاظم فيه حضور اليمن أكثر من أي دولة عربية أخرى بسبب الجدل الداخلي وانتشار اليمنيين في كل بقاع الدنيا. ثمة تجييش مرعب ضد الاستقرار في اليمن يستفيد من ممارسات السلطة ومن دماء مواطنين تراق كل مظاهرة وكل احتشاد. ويجب الاعتراف، إنه تجييش يؤذي الوعي الوحدوي في أعماق اليمنيين ضد بعضهم من أي محافظة كانوا. وسواء عبر التغذية الخبرية، أو التعليقات، أو الصور، أو البلوتك أو غيرها.. نقاشات تحول المستقبل الى مجرد نقطة عراك ساخنة لن تكون فيها للوحدة أو للتشطير أي جدوى.. خاصة وسط غياب مطلق لمن يذكر وبمسئولية بخطورة ذلك على المستقبل أو حتى إن ثمة نقيض لمايطرح باسم التاريخ. وأن حضرموت -مثلا- هي موطن الوجدان الوحدوي الوطني، أن لحج ليست عمران، ولا الضالع حاشد.. إنها مناطق وطنية وحدوية أكثر من كل منطقة يمنية أخرى.. هي من صدرت الاغنية والسياسة وحشدتها لصالح الوحدة.. (لا أقلل من عمران أو حاشد ولكن الحقيقة يجب أن تقال إن هذه مناطق لم تنشغل يوما بتعميق الوحدة كهوية وجدانية). وللأسف، تشهد تلك الساحات ضد المؤسسة الرسمية التي بدلا من أن تبذل كل جهدها لصرف النقاش بعيدا عن "الوحدة"، تغرق يوما بعد يوم في أجندة خصومها، وتتولى تحويل الوحدة الى قضية صراعية الى أعلى مستوى وصولا للحديث عن الوحدة والدم. والنتيجة أن الوحدة صارت، مفردة للنقاش والجدل ثم الصراع و"الدم" فعلا. يؤكد التاريخ أن أي مطالب، تتحول الى فعل عام يكتب لها النجاح.. والنجاح ليس تحقيق كل المراد بل الحد الأدنى منه.. ويقال شعبيا "فجعه بالموت يرضى بالحمى". وطبعا فإن الحمى هي أيضا طريق للموت. وظل الواحد منا يتحدث في كل مكان، "أحموا الوحدة من النقاش العام"، إن ذلك لايخدم إلا دعاة التشطير. ونقول "التشطير" لأنه وفقا للمعطيات الراهنة فليس هناك خيار إسمه الانفصال، بل الفوضى باسم الانفصال. والذين يعلون من شأن الانفصال، من أربابه فإنما يدفعون كرة الثلج للامام حتى تكبر، بانتظار فرض وقائع جديدة يمكن بعدها الحديث عن أي خيار آخر ولو كان الانفصال نفسه. وهو طرح يستغل الارتباك السياسي الوطني لدى السلطة والمعارضة.. لدى نخب الشمال التي تحتشد لاستخدام الوحدة في صراعاتها، والنخبة الجنوبية المقسمة بين وجع الاقصاء الرسمي وغياب الشراكة الشعبية في النضال، وترهل الثقافة السياسية، وآثار غياب دولة كانت حاضرة في كل تفاصيل حيانهم ثم اختفت ذات صباح أعلن فيه انتصار الشرعية!! مختفيا معها سلوكيات كالنت هي حياتهم، وحلت بدلا عنها سلوكيات عميقة التأثير السلبي لاتعترف بأغلبها السلطة حتى الان. حماية الوحدة من النقاش العام، كان يعني بقاء الجدل في دائرة مأمونة –ولعل هذا ماحاول المستشار السياسي لرئيس الجمهورية الدكتور عبدالكريم الارياني جر الناس إليه عبر الحديث عن المجاعة والفقر وتخلف الإدارة، محاولة لاستقطاب اجتماعي بديل لمايفرضه الجدل الصراعي المرتكز على الوحدة كمشكلة، الوحدة كحل. لقد تحققت وحدة 22 مايو بفعل دوام مثل هذا النقاش الحاصل الان ولكن باتجاه عكسي، حيث ظل اليمنيون يتصارعون.. يتفقون ويختلفون، باسم الوحدة.. وهو ماجيش وجدانا وحدويا لدى أغلبية اليمنيين حتى من الذين ظلت مصالحهم مهددة بفعل هذا الخيار.. ومن ثم فإن الحديث عن التشطير إن لم يصرف، وإن واصل الطرفان، التشطيريين والسلطة، العمل كطرفي جدل عن الوحدة والتشطير فإن اليمن متجهة نحو الخيار الذي سيزداد شعبية.. وإذا ما واصلت العلاقة بين السلطة والمعارضة أزمتها فإن خيار السلطة "وهو الوحدة" سيتحول الى مجرد خيار رسمي لطرف سياسي يمني، الأطراف الأخرى موزعة إما ضد الوحدة أو ضد السلطة، والأخيرتين تدعمان بعضا حتى وإن من موقفين نقيضين. لاأبرئ رموز وطنية كبيرة من الوقوع في هذا الفخ "تحويل الوحدة الى مفردة للنقاش"، سواء من يتحدثون عن تغيير شكل النظام السياسي أو يتصدرون للدفاع عن الوحدة.. فهم يتحدثون بسطحية غريبة تؤكد إنهم يستخدمون الوحدة فقط للضغط على سلطة الرئيس علي عبدالله صالح. لا اقول إنهم يضغطون من أجل مطالب غير مشروعة، بل أنحاز الى وطنية مطالبهم ومنها الاصلاح والتغيير والشراكة.. لكن استخدام الوحدة يتحول الى خطر مهما حقق من نجاح. خطر من حيث إنه يتجه الى الخيار الإيجابي الناجز ويستخدمه بحثا عن خيارات غير ناجزة، ومهما تحققت من نتائج فإن الوحدة تكون قد تعرضت للتهديد. الوحدة ليست فعلا مقدسا إلا من حيث كونها فضاء للمصالح والاستقرار، وهي كذلك لنا ولمحيطنا كما إنها ليست هي مصدر أزمتنا.. والأخطاء الكبرى في تاريخ الوحدة هي ممارساتنا نحن كقوى سياسية، ولايجوز ان يتنصل أحد ولا أن نمركز كل خطايانا حول "حرب 1994م" التي تحولت الى كأنها الحرب الوحيدة بين اليمنيين خلال نصف قرن.. مع إنها هي أيضا كانت إحدى نتائج دورة العنف والتي هي التي تهددنا الان من جديد. الوحدة هددها وعينا الفردي، واستخفافنا بواجب حماية التنوع والتعدد.. والتعدي على الحقوق الحريات.. وهذا لايحل بالنقاش حول الوحدة بل حول المعطيات التي سببت الأزمة أو تشكل مفتاحا للنجاح.. وليس هناك طرف سياسي على الساحة الان –أكان شطري أو وحدوي- يقدم نقدا مسئولا لهذه السلوكيات. في آخر مؤتمر حوار يمني الماني، قدم الأخير نموذجا لتقييم المشاكل، يبدأ بتشخيص المطاب العامة لدى الألمان الشرقيين الذين تقول نسبة 72% منهم إنهم معترضون على السياسة الاقتصادية لدولة الوحدة هناك.. قدم الألمان تجربة متميزة لمعرفة أزمة الرضا العام.. نحن لسنا المانيا، لا دولة ولا شعبا.. وبلا استرخاء فنحن مجتمع وسلطة متخلفة غارقة في الإهدار العام للزمن والوقت والطاقات، بينما هم مجتمع فتي يتجه صوب المستقبل.. ولكن لنعتبر تجربتهم في التقييم كأنها أحد مشاريع المساعدة للتنمية.. كأنه مشروع ماء أو طريق ولنجرب الأخذ به. طبعا، حين كنت أستمع لمعطيات التقييم، كنت أرى أزمة كبرى في اليمن.. فحين نقول إن مواطني ماكان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يشعرون بالاستياء من السياسة الاجتماعية لدزولة الوحدة، لا أجد من قوى السلطة والمعارضة اليوم في الشمال والجنوب من يقدم وعيا مناقضا لما يشكو منه الناس.. فالحراك يصعد من قدرته اتكاءا على ذات الأداءات التي سببت المشكلة، هو نوع من تبادل القهر والقهر الآخر.. وليس هناك في اليمن قوة سياسية واحدة تختلف اجتماعيا وثقافيا عن الأخرى.. والمعنى إن الأزمة اليمنية أعمق وأعقد.. نعم هي ذاتها التي يمكن قراءة ملامحها في السعودية ومثلها البحرين بين السنة والشيعة، وفي مصر بين الاسكندرانيين والمصريين (هذا يستخدمون التعبير)، وفي الجزائر والمغرب بين العرب والأمازيغ، وفي السودان بين العرب والافارقة، وفي الاردن بين الانتماء الديمغرافي للسكان (أصول فلسطينية وأصول أردينة).. ولكن وضعنا أكثر تعقيدا بالنظر إلى أن وحدتنا السياسية لاتزل تدار بيد الجيل الذي حققها وهو مايعني إن صراعات هذا الجيل لاتزال حاضرة ونشطة.. وخزينتنا العامة مرهقة.. ووعينا الصراعي أكثر من أي مجتمع عربي آخر.. والتشققات الاجتماعية ومايرتبط بها من أزمات حاضرة وقوية وعميقة.. ومع انتقاداتنا لأجهزة أمننا فإنها لا هي قوية للحد الذي يمكنها أن تأخذ بيد المختلف معها كأجهزة الأردن ومصر والسعودية، ولا هي متواضعة للحد التي تنصرف عن السياسة وتتفرغ لمشكلات الطرقات والسرقات وغيرها كما هو الحال في الكويت والامارات مثلا.. ومعارضتنا لا هي قوية حتى نصبح المانيا، ولا هي متواضعة تلحقنا بالمغرب الذي تفرغت فيه العارضة للحكومة وابتعدت عن البيت الملكي.