تدور في عالمنا العربي انتفاضات وثورات يطالب أصحابها باعتماد النظام الديمقراطي دون أن يتحدث أي منهم عن البنى التحتية الثقافية والاقتصادية للديمقراطية، ودون أن يأخذ أي منهم بعين الاعتبار حصيلة التطبيق الديمقراطي في البلدان المختلفة وبخاصة الغربية. والراجح أن الدعوات الديمقراطية في بلداننا ترفع تيمنا بالنموذج الاقتصادي الغربي الثري قبل أن يكون ديمقراطيا أو ترفع نكاية بالأنظمة العربية القائمة والتي طال الحكم في بعضها إلى حد لا يطاق دون انجازات تستحق الولاية المستمرة عقودا طويلة. والراجح أيضا وأيضا أن المحتجين أو المتظاهرين أو المنتفضين كلهم أو معظمهم لا يريد أن يسمع كلاما عن خطر الحرب الأهلية في مجتمعات عمادها القرابة أو الانتماء الطائفي والأثني ففي هذا النوع من المجتمعات تحل المشاكل السياسية بالتفاهم والتوافق والرضا وليس بالقهر أو العنف أو الإقتلاع من الحكم. فهل تشكل الديمقراطية حلا لبلداننا أم انها سراب يخفي الحاجة الماسة إلى مراكمة الثروة أولا وأخيراً.. هنا محاولة للإجابة عن هذا السؤال. أرتبطت صورة الديمقراطية في العالم بالدول العظمى فبدت عظيمة مثلها وصارت هدفا يسعى إليه الباحثون عن حياة سياسية راقية. ولأنها ارتبطت بالعظمة والعظماء فان من بين التعابير الأكثر انتشارا حول النظام الديمقراطي هو ذلك الذي جرى على لسان رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل إذ وصف هذا النظام بأنه "سيئ لكنه يظل الأقل سوءاً بين أنظمة الحكم المعروفة قاطبة" وقد بينت التجارب السياسية عبر التاريخ أن " الديموقراطية" هي الأكثر استدراجا للرضا من طرف الأكثرية الساحقة من التيارات السياسية في مختلف أنحاء العالم وعليه لا نعثر على فريق سياسي معتبر يقر بالعداء للديمقراطية بما في ذلك الأحزاب والعائلات والفئات الحاكمة في دول اوتوقراطية أو ديكتاتورية أو أوليغارشية أو ملكية والملفت أن هؤلاء يتحدثون عن "خصوصية" دولهم الديمقراطية كالقول أن "نظام الشورى" هو الديمقراطية بصيغة محلية أو أن "الجماهيرية" هي أرقى أشكال الديمقراطية لأنها تعني حكم الجماهير المباشر بلا وسيط. و في حالات أخرى يسعى طغاة إلى تمويه طغيانهم بأردية "ديمقراطية" مرقطة. والبادي أن جاذبية الديمقراطية تعدت المجتمع السياسي إلى عامة الناس حتى صارت أشبه ب "وصفة سحرية" لكل العلل والمشاكل التي يعاني منها سكان العالم الثالث بعبارة أخرى هي الحل المناسب للفقر والجهل والأمية والأمراض المعدية والاستبداد والظلم والجريمة المنظمة وهي الممر الإجباري نحو العدالة والإخاء والمساواة فضلا عن الرخاء المستوحى من الرخاء الغربي ولا أبالغ بالقول أن المجتمع الديمقراطي هو في نظر فقراء العالم الثالث المجتمع الذي يمكن للمرء فيه أن يعيش في «فيلا» محاطة بالأشجار الوارفة ويتنقل بسيارة فاخرة ويحصل على وظيفة وراتب بآلاف الدولارات ويستفيد من أرقى الخدمات الطبية ومن حضانة للأطفال في الحي السكني نفسه ومن عطل نصف مدفوعة من رب العمل في أرجاء العالم ومن تقاعد يمكن للمرء أن يمضي شطره الأكبر ممدا على كرسي وثير يطالع كتابا أو يلعب الغولف أو التنس أوالبريدج او يتزلج على الثلج أو يستعد للغوص في المسبح الخاص في حديقة المنزل في الهواء الطلق صيفا أو في قاعة البيت السفلى وسط الماء الساخن شتاء... الخ. والثابت أن هذا الوهم جاذب ومغر لمئات الملايين من البشر الذين يرزحون تحت خط الفقر والذين يظنون أن ورقة الاقتراع معقودة على نواصيها كل الحلول والآمال ولفرط الظن الحميد حولها باتت إلى هذا الحد أو ذاك كالإفادات التي كانت تمنحها الكنيسة لرعاياها من أجل الدخول إلى الجنة . ليست الديمقراطية حلا لمشاكل الفقر والفقراء وليست شرطا للتقدم كما أن غيابها ليس سببا للتأخر ولو كانت شرطا للتقدم لما حققت البشرية الانجازات العملاقة التي تحققت حتى اليوم بل يمكن القول أن الانجازات العظيمة في مدينة عالمية كمدينة باريس تحققت في عهود سابقة على الديمقراطية إن أجمل اللوحات والمؤلفات الموسيقية والآثار العمرانية هي تلك التي أنتجت في بلاط الملوك وقد تم التخطيط العمراني الأهم للعاصمة الفرنسية في العهد الإمبراطوري وأقرت شرعة حقوق لإنسان في العهد الجمهوري الإرهابي الاول الذي تلا الملكية و نشأ الفلاسفة العظام في عهود ملكية أما الديمقراطية فقد أعطت باريس أهرامات اللوفر الزجاجية الفقيرة في زخمها الجمالي و"الفيلسوف" برنار هنري ليفي الذي تخطى مثقفي الحملات الفرنسية الكولونيالية نفاقاً وانتهازية وفي ظلها قتل ملايين البشر في الهند الصينية وأفريقيا واسيا دون رادع أخلاقي أو قيمي. ليست هذه مرافعة رجعية ضد الديمقراطية بل طريقة لدعم استنتاج ونستون تشرشل بان النظام الديمقراطي هو اقل الأنظمة السياسية سوءاً بالنسبة للدول الغربية الكلية القدرة والتي تسود العالم ولعل النظام نفسه يكون أقل سوءاً في العالم الثالث أيضا من أنظمة القمع والاستبداد شرط أن يتمكن المعنيون بالتغيير من ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية بطريقة ميسرة ودون السقوط في هاوية الحرب الأهلية وبالتالي الرجوع إلى مرحلة ما قبل الدولة وما قبل النظام السياسي كما هي الحال في الصومال وفي العديد من البلدان الفقيرة الأخرى في أكثر من قارة. لكن المهمة الأصعب تظل في اعتماد أخلاق سياسية في الحكم لتنبيه الناس إلى أن شروط حياة أفضل تعني ورشة إنتاج أفضل أي أن التغيير الفعلي في حياة أمة ليس رهنا بنظام الحكم وإنما بعلاقات وشروط الإنتاج . هذا الاستنتاج يمكن العثور على ما يشبهه في مقال مذهل نشر مؤخرا للسيد جاك أتالي مستشار الرئيس فرانسوا ميتران السابق الذي اعتبر أن الأسواق العالمية التي صارت كلية القدرة بفضل الديمقراطية تشكل اليوم الخطر الأكبر على الديمقراطية نفسها ولو أراد أن يكون أكثر جرأة لربما استخلص مع كارل ماركس أن علاقات الانتاج هي التي تحدد شروط النظام السياسي وليس العكس وان الديمقراطية التي أتاحت انبثاق الوحش الرأسمالي جاءت بجلادها من رحمها. خلاصة القول أن الديمقراطية تواجه تحديين كبيرين في هذا العصر. الأول خلاصي تيولوجي في خيال فقراء العالم الثالث والثاني راس المال الوحشي في العالم الغربي وفي الحالتين تكاد أي الديمقراطية أن تكون مجردة من كل سلاح.