نصيحة للذين يفكرون بقراءة دستيوفسكي: الجريمة والعقاب هي أفضل أعماله. وهي الرواية الوحيدة، في نظري، التي تستحق أن تقرأ، أو التي من المهم أن تقرأ. بقية الروايات، يستوي أن تقرأها أو لا تقرأها؛ مجرد إجترار. دستيوفسكي، مثل كل الروائيين الكبار، قرأت عنه الكثير، قبل أن اقرأ له. قرأت أن بورخيس قال: إن إكتشاف دوستيوفسكي مثل إكتشاف الحب لأول مرة، أو البحر، فهو علامة على لحظة هامة في رحلة الحياة. أما أورهان باموق، فكتب: إن قراءتي الأولى لدستيوفسكي بدت لي علامة على اللحظة التي فقدت فيها براءتي. عندما بدأت بقراءة دستيوفسكي، كنت مقتنعا بصحة هذه المقولات، أي أن قراءتي لم تكن محايدة، ومع ذلك، ورغم أن قراءتي لم تكن محايدة، إلا أنني لم أشعر، مع دستيوفسكي، بالبهجة في أي لحظة. وهكذا بدت لي مقولة بورخيس، ومقولة أورهان باموق، مقولات طنانة، فارغة من أي مضمون. فلا دستيوفسكي ذكرني بالبحر، ولا هو جردني عن براءتي. الرواية الوحيدة، التي وجدت فيها ما يستحق الإعجاب والإشادة، هي الجريمة والعقاب. وهذا ما سيشعر به كل قارئ تقريبا. والسبب في ذلك، هو أن دستيوفسكي، في هذه الرواية، عثر على القضية التي ساعدته على الكتابة، أي أنه كان يملك فكرة معينة، ولأنه كان يملك فكرة معينة، فقد إستطاع أن يكتب عملا رائعا. في بقية الروايات يبدو دستيوفسكي تائها، يبحث عن موضوع. من بين عشرات الموضوعات التي يعالجها في الرواية، لا تستطيع أن تقبض على موضوع رئيسي. في رواية الأبالسة، والمراهق، والأبله، ومذكرات من تحت الأرض، حاولت أن أعثر على المحور الذي يساعدني على إكتشاف أماكن الجمال في الرواية، فلم أعثر على أي محور. وأعتقد أنه ليس هناك أي محور معين، إنها أشبه بمذكرات يومية، كتبها دستيوفسكي في أوقات متفرقة، وحول موضوعات متفرقة، ثم قام بإعادة صياغتها، وإخراجها على شكل رواية. هذا هو الإنطباع الذي توصلت له أثناء قراءتي لهذه الروايات، وهي أهم روايات دستيوفسكي. هناك من يقول إن أهمية دستيوفسكي تكمن في أنه عالج الكثير من الموضوعات النفسية، وأن له دورا بارزا في تطور علم النفس الإجتماعي، وهذا الرأي ينطوي على بعض المبالغة. ذلك أن كل الإشارات النفسية التي وردت في كتب دستيوفسكي، كان قد سبقه إليها الكثير من الروائيين الفرنسيين، وخصوصا إستاندال وبلزاك وفيكتور هوجو. كل ما فعله دستيوفسكي، هو أنه إلتقط تلك الإنفعالات وضخّمها، وحولها إلى موضوعات رئيسية في رواياته. القسم الأكبر من شغل دستيوفسكي، يتركز على الجانب النفسي لأبطاله، وهذا هو ما يجعل رواياته تبدو كما لو أنها تجمع لمرضى العصاب، أو مستشفى مجاذيب. هناك أمر مهم، ينبغي الإشارة إليه، يتعلق بحياة دستيوفسكي. من المعلوم أن حياة دستيوفسكي، كانت سلسلة من النكبات. في البداية، كانت نكبة السجن، والحكم بالإعدام، ثم بعد ذلك خفف حكم الإعدام، إلى النفي في سيبيريا مع الحكم بالأشغال الشاقة، وهذا إقتطع سنوات من شباب دستيوفسكي، وما إن عاد دستيوفسكي من المنفى، وبدأ ينخرط في الحياة الأدبية، ويكتب أولى رواياته: مذكرات من منزل الأموات، ما إن يتم له ذلك، حتى يسقط مجددا تحت وطأة نكبة جديدة، هي نكبة المرض، ثم نكبة السفر إلى الخارج والتشرد في أوروبا لسنوات. ويضاف إلى نكبة السجن، والمرض، والتشرد، نكبة أكبر، هي الفقر، والحاجة إلى المال، وهو الأمر الذي كان يضطر دستيوفسكي أحيانا إلى التعجيل بإنجاز رواياته، والبعث بها إلى دور النشر، لكي يحصل على المال اللازم. أظن أن تلك المحن التي عصفت بحياة دستيوفسكي، تسببت بحرمانه من تحصيل المعرفة والثقافة اللازمة. لا شك أن هذا القول سيسيء الكثير من المتعصبين لدستيوفسكي، لكنني كقارئ، من حقي أن أبدي رأيي. نعم. إن دستيوفسكي يبدو لي قليل الثقافة، مقارنة بما كان يملك من موهبة. لا أقصد أنه لم يكن صاحب ثقافة كبيرة، ما أقصده هو أن الثقافة التي إمتلكها، لم تكن بمستوى الروائي الذي كان جديرا بدستيوفسكي أن يصل إليه. إن الثقافة التي إستطاع دستيوفسكي تحصيلها، كانت، من وجهة نظري، تكفي لكتابة روايتي الجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف فقط، فيما عدا ذلك، أعتقد أن دستيوفسكي بذل فوق طاقته، وفوق إمكانيته. بالطبع، كل ما سبق، لا يعني أنني لا اؤمن بأن دستيوفسكي روائي عبقري. في الأخير، لو لم تكن لدستيوفسكي إلا رواية الجريمة والعقاب، لأمكن أن نعتبره من أعظم الروائيين على الإطلاق. وأكثر ما أعجبني لدى دستيوفسكي، هي قدرته الفائقة على الأداء المسرحي. ما إن يبدأ عنصر "الحوار" في أي رواية، حتى يتحول دستيوفسكي إلى كاتب مرعب. إنه، في جلسة حوار لا تستغرق أكثر من ساعة، يستطيع أن يختصر أحداث سنوات عديدة، دون أن يحس القارئ بالفراغات التي يمكن أن تنجم عن عملية القفز من فترة زمنية إلى أخرى. ما أعجبني أيضًا بدستيوفسكي، هي طريقته الشريرة في التعامل مع القارئ. في رواية الجريمة والعقاب مثلا، لا يستطيع القارئ أن يتنبأ ما الذي سيحدث. في أي لحظة قد يفاجئك بحدث خارق، لم تكن تتوقعه. إضافة إلى أن الأحداث لا تصل عند دستيوفسكي إلى نهايتها، إلا بعد أن تستنزف من القارئ كل قوته. إن دستيوفسكي يسرد الأحداث، حتى يصل بقارئه إلى أقصى حدود الإثارة، ثم يتركه فجأة أمام حدث مفاجئ، يقلب المعطيات، ويجعل النهاية غير تلك التي كان القارئ يتوقعها. وهذه الطريقة، غاية في الشهوانية والتهتك. صحيح أن هذه الطريقة هي شائعة نوعا ما، وخصوصا في الروايات ذات الطابع البوليسي. في روايات دان براون، مثلا، يصل الحدث إلى نقطة حرجة، ثم يتوقف الرواي، ليدخل في حدث سابق، أو حدث جديد، وهكذا، دواليك. هذه الطريقة هي شائعة نوعا ما، لكن أهم ما يميز دستيوفسكي هو أنه يظل ممسكا بزمام الحدث الرئيسي. إنه يدور بكثير من الشهوانية والتهتك، ويصعّد قابليتك للإثارة، دون أن يخرج عن سياق الحدث، ودون أن يترك لك فرصة لإلتقاط النفس. وفنان متهتك مثل دستيوفسكي، لا يريد أن يستولي على قارئه عن طريق التتابع المتدرج للأحداث، أو ما يسمى بالسرد الملحمي. لايوجد سرد ملحمي في كل روايات دستيوفسكي، وليس فقط في الجريمة والعقاب، إنه يحشد الأحداث بطريقة متزاحمة، ويكهرب الجو منذ البداية، وكأنه يريد أن يستولي على القارئ عاطفيا، ويريد أيضًا من قارئه ان يحبه بطريقة عاطفية، وليس بالطريقة المنطقية المألوفة، أي الناتجة عن السرد المتسلسل للأحدث.