غارتان أمريكيتان تدمران مخزن أسلحة ومصنع متفجرات ومقتل 7 إرهابيين في شبوة    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    تضحياتٌ الشهداء أثمرت عزًّا ونصرًا    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    الأهلي يتوج بلقب بطل كأس السوبر المصري على حساب الزمالك    نجاة برلماني من محاولة اغتيال في تعز    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    مانشستر سيتي يسحق ليفربول بثلاثية نظيفة في قمة الدوري الإنجليزي    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    وزير الصحة: نعمل على تحديث أدوات الوزارة المالية والإدارية ورفع كفاءة الإنفاق    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    رئيس بنك نيويورك "يحذر": تفاقم فقر الأمريكيين قد يقود البلاد إلى ركود اقتصادي    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    محافظ المهرة.. تمرد وفساد يهددان جدية الحكومة ويستوجب الإقالة والمحاسبة    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    عين الوطن الساهرة (1)    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    أبناء الحجرية في عدن.. إحسان الجنوب الذي قوبل بالغدر والنكران    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    قراءة تحليلية لنص "رجل يقبل حبيبته" ل"أحمد سيف حاشد"    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المكان ودلالته في شعر البردوني (1-2)
نشر في الرأي الثالث يوم 17 - 12 - 2012

«إلى جانب هذه المعارف التي أغدقتها مساجلة السلاح تكشفت المعارف المكانية بدلالات أسمائها التاريخية وبإيحاءاتها المعاصرة فأًصبح (نقم) و(سنوان) و(العرقوب) و(حرض) و(حزم الجوف) و(حريب) من صور الأدب وفن الصحافة ولم تعد تلك الأسماء مجرد أماكن جغرافية كانت مجهولة وإنما تحولت إلى نبض فني وإلى دلالة على التغيرات في النهج المعرفي والسرد المكاني».
عبدالله البردوني
في كتاب رحلة في (الشعر اليمني قديمه وحديثه) حدد البردوني موقفه النقدي من المكان في شعر الزبيري وقد جر ذلك عليه موجة من الغضب إذ كان يرى أن الإيحاء المكاني أدل على سر المكان كقضية، ودلالة شعرية ويرى أن «الشعر المتصل بالذكريات والحنين والنضال ينقل الأمكنة إلى أحضان القصائد، أو يشير إلى ما فيها من بواعث الحنين ودواعي الذكرى»(1) وقد وقف الشعر الحديث من المكان موقفاً متأملاً باعتبار المكان صدى للصدمة الحضارية التي زعزعت الثقة بالنفس وبالوجود أو الموجودات المكانية ولذلك كانت أولى تجليات البردوني الشعرية توحي بالانتماء إلى المكان إذ أنه بالإضافة إلى دلالة مجموعته الأولى المكانية «من أرض بلقيس» يكتب نصاً شعرياً يصدر به مجموعته الشعرية كتأكيد على الإنتماء والهوية المكانية:
من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر
من جوها هذه الأنسام والسحر
من صدرها هذه الآهات من فمها
هذي اللحون ومن تاريخها الذكر
من السعيدة هذي الإغنيات ومن
ظلالها هذه الأطياف والصور
أضيافها حول مسرى خاطري زمر
من الترانيم تشدوا حولها زمر
من خاطر اليمن الخضراء ومهجتها
هذي الأغاريد والأصداء والفكر(2)
والمتأمل في النص يجد أن «من» قد تكررت ثمانية عشر مرة بعدد أبيات القصيدة كتأكيد على الأنتماء والوجود، إذ أن اليمن في النصف الأول من القرن الماضي(3) كانت تعيش في عزلة تامة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، لذلك كانت فكرة الإنتماء والوجود أهم ما يشغل ذهن المثقف والأديب، إذ من المعلوم أن التعريف بالمكان كان أبرز الأعمال الأدبية والفكرية والتاريخية التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي مثل «هذه هي اليمن» «ملامح من الأدب اليمني» «قصة الأدب اليمني» «من الأدب اليمني» وغير ذلك من الكتب التي كانت في مجملها تحاول إعادة حلقة مفقودة بفعل العامل السياسي والتاريخي إلى مكانها الطبيعي.
فالبردوني في مرحلته الفنية الأولى شأنه شأن غيره من الأدباء والمثقفين كان يحن إلى تأكيد الإنتماء والوجود ولذلك تكررت هذه الفكرة في مجموعته الثانية إذ أنه في فاتحة المجموعة الثانية «نص إلى قارئي» يتبع نفس الأسلوب في تكرار «من» إلا أنه يتغاير في نصه هذا عن النص السابق إذ أنه في هذا النص يصور مأساة المكان كإيحاء على قضية الإغتراب والعزلة والتغييب.
من القبر من حشرجات التراب
على الجمر، من مهرجان الذباب
ومن حيث كان يدق القطيع
طبول الصلاة أمام الذئاب
ويهوي كما يرتمي في الصخور
قتيل على كتفيه.. مصاباً
ومن حيث كانت كؤوس الجراح
تزغرد بين شفاه الحراب
ومن حيث يحسو حنين الربى
غبار المنى ونجيع السراب
ومن حيث يتلو السؤال السؤال
ويبتلع الذعر وهم الجواب(4)
فالمكان يتحول إلى مأساة، والاحساس بالمأساة يشكل المكان كقضية.. ربما تكون قضية وجود مكاني، وربما تكون قضية تثوير إذ أن الصور القاتمة التي رسمها للمكان تستدعي نشدان التغيير «من القبر» «من حشرجات التراب على الجمر» «من مهرجان الذباب» من حيث يحسو حنين الربى، غبار المنى، ونجيع السراب» كل تلك الصور الشعرية البالغة الوحشية واقع مهمين في محيط الشاعر لا يستطيع فكاكاً منها:-
فإن حروفي اختلاج السهول
وشوق السواقي، وخفق الهضاب
وشوق الرحيق بصدر الكروم
إلى الكأس والثلج في كل باب(5)
فهنا تداخل المكان مع «الأنا» وأصبح نسيجاً واحداً كلاهما يعكس وجه الآخر فهذا التفاعل والتمازج ليس حقيقة أدبية بحتة ولكنه إحساس داخلي بضرورة التغيير بضرورة تجاوز اللحظة المكانية الأنية، وصناعة المكان وفق تطلعات الرؤية الشاعرة وفق عامل تحفيزي يرتكز على الماضي ليصنع المستقبل:-
نحن من نحن؟ نحن تأريخ فكر
وبلاد في المكرمات عريقة
سبقت وهمها إلى كل مجد
وانتهت منه قبل بدء الخليقة(6)
فالتساؤل الذي يحمل دلالة التعظيم والافتخار بالمنجز الثقافي والحضاري في طياته دلالة تحفيزية على تجاوز اللحظة المكانية الآنية بما تحمله من صور موحشة وقاتمة، ويبرز الخيال كمعادل يعيد ترميم التصدع المكاني، ويعيد رسم صورته وفق خيال «الأنا» وتصورها فتكون «مدينة الغد» هي الحلم الذي يتشكل في الوعي متفاعلاً مع مقومات المكان كي يعطي للمكان هويته المفقودة:-
من دهور.. وأنت سحر العبارة
وإنتظار المنى وحلم الإشاره
كنت بنت العيوب دهراً فنمت
عن تجليك حشرجات الحضاره
ذات يوم، ستشرقين بلا وعد
تعيدين للهشيم النضاره
تزرعين الحنان في كل واد
وطريق، في كل سوق وحاره
في مدى كل شرفة، في تمني
كل جار، وفي هوى كل جاره
في الروابي حتى يعي كل تل
ضجر الكهف واصطبار المغاره
سوف تأتين كالنبوءات كالأمطار
كالصيف، كانثيال الغضاره
تملئين الوجود عدلاً رخياً
بعد جور مدجج بالحقاره
تحشدين الصفاء في كل لمس
وعلى كل نظرة، وافتراره
تلمسين المجندلين فيعدون
تعيدين للبغايا البكاره
وتصوغين عالماً تمثر كالثبان
فيه ترف حتى الحجاره
وتعف الذئاب فيه وينسى
جبروت السلاح، فيه المهاره
العشايا فيه، عيون كسالى
واعدات، والشمس أشهى حراره
لخطاه عبير «نسيان» أو اشذى
لتحديقه، أجدّ إناره
ولألحانه، شفاة صبابا
وعيون، تخضر فيها الإثاره
أي دنيا ستبدعين جناها
وصباها، فوق احتمال العبارة؟(7)
فالمدينة التي رسم معالمها الشاعر في هذا النص مدينة فاضلة ستشرق في يوم ما بلا وعد تعيد صياغة الموجودات المكانية ومقوماتها وفق رؤية أكثر انتصاراً وتطلعاً وأكثر جمالاً، يسودها الحب والوئام والحنان، الذي هو أعلى قيمة عاطفية بين الموجودات المكانية كالوادي، والطريق، والسوق، والحارة، والشرفة، والجار والجارة، والروابي باعتبار تلك الموجودات تتفاعل مع بعضها في علاقة جدلية متوازنة لا تطغى إحداهما على الأخرى بل تسعى كل واحدة الى تعميق خصائص الأخرى حتى تتكامل الرؤية في تحقيق المدينة الحلم، المليئة بالعدل بعد الجور والظلم، وصفاء السريرة بعد الضغينة، وبالفضيلة بعد الرذيلة «تعيدين للبغايا البكاره» وتصوغ عالماً تثمر الكثبان فيه وترف فيه الحجارة، ولعل دلالة الاستمرار في الفعل المضارع «تثمر» و«ترف» توحي بتمثل خصائص الموجودات المكانية لبعضها البعض، إذ أن الكثبان الرملية لا تمثر، فالثمر من خصائص الشجر والنبات كموجود مكاني، والحجارة لا طرف لها حتى يرف «فالرف» من خصائص الابصار عند الإنسان وهو موجود مكاني يتمثله ويعايشه وجدانياً وفق علاقة متوازنة.
بيد أن تلك الرؤية سرعان ما يطويها الواقع السياسي إذ تنعكس التطلعات الثورية ويطوى الحلم بانقلاب 5 نوفمبر 26م(8) وباستقرار الوضع السياسي والأمني يراوح المكان مكانه ويتقمص جلباب الماضي ويتعثر الزمن، ويغفو الحلم وراء عيون المكان:
بلادي من يدي طاغ
إلى أطغى إلى أجفى
ومن سجن إلى سجن
ومن منفى إلى منفى
من مستعمر باد
إلى مستعمر أخفى
من وحش إلى وحشين
وهي الناقة العجفا
بلادي في كهوف الموت
لا تفنى ولا تشفى
تنقر في القبور الخرس
عن ميلادها الأصفى
وعن وعد ربيعي
وراء عيونها أغفى
عن الحلم الذي يأتي
عن الطيف الذي إستخفى
فتمضي من دجى ضاف
إلى أدجى.. إلى أضفى
بلادي في ديار الغير
أو في دارها لهفى
وحتى في أراضيها
تقاسي غربة المنفى(9)
فالمكان/ البلاد، تحول حلمها إلى ضلالة حزينة، وانكسار في الحلم ونفي إلى خارج إطار الزمان:-
وحتى في أراضيها
تقاسي غربة المنفى
لم يكن انكسار الحلم يمنياً بقدر ما كان انكساراً عربياً عاماً إذ أن نكسة حزيران ألقت بظلالها على الحلم العربي والأمل في التحرر وبانطفاء شعلة الأمل الثوري في حزيران وجد ثوار اليمن أن الحلم يموت ويتوارى (ذلك لأن ضباط الثورة وجنود الحرس الوطني والمثقفين كانوا يملكون عن الثورة أفكاراً مسبقة من ثقافة الخمسينيات وأحداثها لأن ذلك العهد شباب الزمن الثوري، فتصوروا الثورة نقيضاً تاماً لما كان وأساساً متيناً لما سوف يكون، لأنهم كانوا يشمون روائح الثورات العسكرية والشعبية في شعوب العالم الثالث، دون أن يكونوا على دراية كافية بمشاكل الثورات وخبايا المؤامرات عليه، وهذه النظرة المثالية إلى الجديد من سجايا الشباب الذين يرون يومهم الذي أطلعوا شمسه منقطعاً عن أمسه كما يتصورون الآتي مخالفاً لمأتاه من كل الوجوه كان هذا المفهوم الشبابي الثوري سائداً في كل شعوب الثورات: من ثورة البرجوازية في فرنسا إلى الثورة البلشفية في روسيا إلى الثورات الشعبية والعسكرية في الهند ومصر والعراق والجزائر وكان هذا المفهوم الشبابي منسحباً على الثقافة والسياسة وعلى الأدب والفن».(01)
«أما عام 1970م فقد اتسم بالمحاولات السياسية المتجاوزة وقائع الستينيات جملة، إذ تحقق التصالح بين الجمهورية العربية اليمنية والمملكة العربية السعودية، وعاد قادة الملكيين إلى سلطة الدولة والحكومة في صنعاء، فتبدت أوائل السبعينيات كتكفير لأخطاء الستينيات من ناحية النظام وكامتداد لها عند المقاومين عسكرياً وثقافياً، فتعددت الأشكال المتناقضة والمتطورة على وجه السبعينيات فحاولت المقاومة أن تمد حماس (الاتحاد الشعبي الثوري) الذي تشكل من كل التنظيمات الثائرة عام 6691م في وجه التصالحيين والانهزاميين»(11) وقد توخى مشكلوا الاتحاد بهذا التنظيم الرد على إعلان تسمية النظام بالشطر الجنوبي ب(جمهورية اليمن الديمقراطية) اواخر عام 9691م.
وهذا يصف الشمال بعدم الديمقراطية، فكان التراشق بين نظامي صنعاء وعدن من أشكال مطلع السبعينيات التي تكاثرت أشكالها السياسية والثقافية، وكان الشعر أعلى الأصوات في هذا التشكيل لأن له عراقة في مقارعة التسلط»(21) لذلك فقد زخر النصف الأول من السبعينيات بثقافة تثوير الثورة إلى جانب الأعمال السياسية المباشرة»(31) فتبدت قصائد البردوني وكأنها تستنهض المكان من مثل قصيدته «صنعاء والحلم والزمان» التي نظمها في يولي 0791م:
صنعاء يا أخت القبور
ثوري فإنك لم تثوري
حاولت أن تتقيئي
في ليلة عفن العصور
وأردت قبل وسائل البنيان
تشييد القصور
صنعاء من أين الطريق
إلى الرجوع أو العبور
ماذا ترين أتسبحين؟
أتعبرين بلا جسور
هل تسفرين على الشروق
أتخجلين من السفور
اتزاحمين العالم المجنون؟
يا بنت الخدور
شهر، وعدت كما أتيت
بلا مكان أو شهور
تتنهدين بلا أسى
أو تضحكين بلا سرور
صنعاء ماذا تشتهين؟
أتهدئين لكي تموري
تتوهجين ولا تعين
وتنظفين بلا شعور
كم تحلمين ولا ترين
وتعتبين على الدهور
ما زال يخذلك الزمان
فتبزغين لكي تغوري
يا شمس صنعاء الكسول
أما بدا لك أن تدوري(41)
أسلفنا القول أن عنوان النص «صنعاء الحلم والزمان» صنعاء كمكان، والحلم كاستشراف إلى المستقبل لأن الحلم خاصية زمانية مستقبلية فالمستقبل يرتبط بالحلم كما أن الماضي يرتبط بالذكرى والحاضر يرتبط بالألم، وهو هنا -في النص- السوداوية والألم بل والنهاية بدلالة «أخت القبور» مع انتفاء فعل التغيير -فعل الاستشراف- (ثوري فإنك لم تثوري) إذ أن الماضي كسلطة قاهرة مازال يرمي بظلاله على الواقع الذي يشكل خلفية للنص تقف بكل علائقها الاجتماعية والسياسية والتاريخية حائلاً دون المستقبل، لذلك يبدو المكان حائراً يتلمس الطريق كالأعمى فلا يهتدي إذ أن الزمان والمكان يصيران عدماً:
شهر، وعدت كما أتيت
بلا مكان أو شهور
وكذلك ينتفي الاحساس فالتنهيد بلا أسى، والضحك بلا سرور، وبانتفاء خصائص التداخل بين «الأنا» والمكان يصبح هناك «عينة جديدة من الحزن»(51) تتداخل فيها الخصائص كمشاركة وجدانية :
مثلما تعصر نهديها السحابة
تمطر الجدران صمتاً وكآبه
يسقط الظل على الظل كما
ترتمي فوق السآمات الذبابه
يمضغ السقف وأحداق الكوى
لغطاً ميتاً وأصداء مصابه
مزقاً من ذكريات وهوى
وكؤوساً من جراحات مذابه(61)
في مثل ذلك الجو الكئيب وتلك الأنهزامية التي تسيطر على المكان وتحاول الهيمنة عليه وقهره ويتأصل الانتماء، ويتجدد عامل التغيير ويصبح المكان كل شيء:
لها أغلى حبيباتي
بداياتي.. وغاياتي
لها غزوي وإرهاقي
لها أزهى فتوحاتي
وأسفاري إلى الماضي
وإبحاري إلى الآتي
لعيني «أم بلقيس»
فتوحاتي وراياتي
وانقاضي واجنحتي
وأقماري وغيماتي
لها تلويح توديعي
لها أشواق أو باتي(71)
ضمير «الرفع المتصل» يوحي بواحدية المصير، والملاحظ في نصوص البردوني في عقد السبعينات، الانكفاء على «صنعاء» كتخصيص لكنها تعني مطلق اليمن في دلالته الجغرافية وقد تعدد البعد الموضوعي الذي عالجه البردوني في نصوصه، فتارة نجده يؤصل الانتماء وتارة يحلم بالمدينة المفاضلة، وتارة يرثى حالة الانكسار والتراجع وتارة يقوم بتثوير المكان وصولاً إلى الحلم الكبير في مدينة فاضلة تختفي من مظاهرها وتمظهراتها.. القبرية - السكونية - الظلامية، التي كانت أحد مرتكزات الوعي التغييري عند البردوني، إذ أن فكرته التغييرية ترتكز على إدراك الماضي، وتصور الآتي/ المستقبل ويرفض الإرتجالية أو الإتكالية أو ترك المصير للأيام كي تحدده، فالوعي بالمتغير -بالفتح- يجب أن يماثله بوعي المغير -بالكسر-:-
أتدرين يا صنعاء ماذا الذي يجري
تموتين في شعب يموت ولا يدري
تموتين.. لكن كل يوم وبعدما
تموتين تستحيين من موتك المزري
تموتين لكن في ترقب مولد
فتنسين أو ينساك ميعاده المغري
إلى أين هل تدرين من أين ربما
طلعت بلا وجه وغبت بلا ظهر
تسيرين من قبر لقبر لتبحثي
وراء سكون الدفن عن ضجة الحشر
أتستنشقين الفجر في ظلمة
بلا هدوء.. بلا نجم.. يدل على الفجر؟(81)
فغياب المعلم المكاني الدال على المكان انتفاء للهوية التاريخية والحضارية، كما إن غياب ملامح المكان مسخ وعبثية وقد تراءت هذه الأفكار في سياق النص السابق لكنها كانت أكثر وضوحاً وخصوصية في نص «صنعاني يبحث عن صنعاء» وليعذرني القارئ لأنني سأنقل النص كاملاً لصعوبة الاختصار، فأنا مجبر على ذلك أو أجبرني النص حتى تكون دلالة الفكرة أشد وضوحاً:
هذي العمارات العوالي ضيعن تجوالي مجالي
حولي كأضرحة مزورة بأولوان اللآلي
يلمحنني بنواظر الإسمنت من خلف التعالي
هذه العمارات الكبار الخرس ملأى كالخوالي
أدنو ولا يعرفنني أبكي ولا يسألن: مالي
وأقول من أين الطريق؟ وهن أغبى من سؤالي
كانت لعمي هاهنا دار تحيط بها الدوالي
فغدت عمارة تاجر (هندي) أبوه برتغالي
وهناك حصن تامر كان أسمه (دار الشلالي)
وهناك دار عمالة كان اسمها (بيت العبالي)
وهناك قصور أجانب «غلف» كتاجر الموالي
هل هذه صنعاء..؟ مضت صنعاء سوى كسر بوالي
خمس من السنوات اجلت وجهها الحر (الأزالي)(91)
صحيفة 26سبتمبر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.