ليس المقصود ب «الجنوب»، هذه المرة، جنوب ابراهيم حاج عبدي لبنان أو اليمن أو العراق أو مصر...، بل «جنوب السودان» الذي بات في الفترة الأخيرة يحظى باهتمام «استثنائي» من الفضائيات قاطبة في انتظار الاستفتاء المزمع إجراؤه في التاسع من الشهر الجاري لتحديد مصيره، الانفصال عن أو البقاء ضمن، أراضي السودان الشاسعة التي تبلغ مساحتها 2,5 مليون كم مربع. كان هذا «الجنوب»، وحتى وقت قريب، مهمشاً ومنسياً، ولم تكن الفضائيات لترغب في الذهاب إلى تلك المجاهل القصية، النائية حيث كان هذا «العنوان الفضائي الطارئ» يمر بخجل على شاشة الفضائيات لدى توقيع اتفاق ما مع السلطة المركزية في الخرطوم. غير أن ولايات تلك المنطقة، التي بتنا نعرف أسماءها واحدة واحدة، غدت، الآن، مسرحاً لصخب الفضائيات، وأصبحت جوبا اسماً يتكرر بلا ملل كعاصمة لجنوب السودان الذي يشغل حوالى 700 ألف كم مربع من مساحة البلاد، وتنتشر بين سكانه لهجات متعددة، كما تتعدد الديانات والإثنيات، وتعد «الدينكا» كبرى القبائل هناك، تليها قبيلة «النوير» ثم قبيلة «الشلُك». ومع اختلاف طبيعة التغطية بين فضائية وأخرى، ذلك أن المنحى السياسي، هنا، يفرض منطقه، فإن جميعها تولي «الجنوب» ومصيره المستقبلي اهتماماً واسعاً. وهكذا راحت الفضائيات تبث مقاطع ترويجية للاستعدادات التي اتخذتها، وصممت شعارات معينة لمواكبة الحدث، وأصبح مألوفاً أن تشاهد في صدر نشرات الأخبار مسؤولين من النظام ومن «الجنوب» يتحدثون عن الاستفتاء ونتائجه والآفاق السياسية لهذه العملية. وإلى جانب هذا البعد السياسي، لا تغفل الفضائيات عن توجيه كاميراتها نحو ملامح الحياة في ذلك «الجنوب»، وتفاصيل المعيشة اليومية، وتخوض في إظهار الثقافات والعادات والمعتقدات حتى ليظن المشاهد أن هذا «الجنوب» هو متحف للغرائب اكتشف للتو، ويذهب بعض الفضائيات في اتجاه العزف على وتر العواطف الوطنية، والتحريض على البوح بمكنونات النفس الخفية التي كانت حبيسة الوجدان حتى أطل هذا الاستفتاء ك «حدث جلل» يسبر الأغوار العميقة في دواخل بشر بسحنات سوداء لا يستطيعون إخفاء دهشتهم أمام عدسات راحت تستطلع شجونهم وتطلعاتهم وأحلامهم بغتة، ودون سابق إنذار. «أهل مكة أدرى بشعابها»، تلك هي المقولة التي يمكن سوقها، هنا، ولدى الحديث عن ظرف مماثل. وفي معزل عن التورط في التأويل السياسي، فإن الجنوبيين أولى بمصلحتهم، وأكثر دراية من الفضائيات بمستقبلهم وطريقة عيشهم. غير أن هذه الفضائيات مصرة على لعب دور «الوصي» في هذا الاتجاه أو ذاك، وكأن الجنوبيين غير جديرين بهذه الفرصة التي أتيحت لهم. وإلى أن تظهر نتائج الاستفتاء، فإن التلفزة، على الأرجح، ستستمر في «أدلجة» الموضوع وتسييسه على نحو يجعل من غالبية التقارير القادمة من «الجنوب» مجرد منشور دعائي فج من النوع الذي ربما كان السبب الرئيس في دفع الجنوبيين للمطالبة بمثل هذا الاستفتاء.