نذر المأزق الوطني الذي بدأ بمقتل شخص أو شخصين وبجرح عشرة هنا أو هناك، تواصل وتعمق بالمأساة التي جرت بعد ظهر الجمعة الماضي، والتي أدمت قلب كل مواطن يمني، وعكست أبشع الصور للعالم الخارجي عن شعب الإيمان والحكمة. ومن المصادفة أن الجريمة وقعت عند مدخل الجامعة الجديدة، التي ينتصب أمامها مجسم الحكمة اليمانية. وكنت دائما أعلق عليه أمام الأصدقاء -منذ أن وضع هناك- بأنه يجسد خازوقا كبيرا، وإن حفرت على جوانبه عبارة "الإيمان يمان والحكمة يمانية". إذا أردنا أن نعرف جذور هذه المأساة فأول ما يتبادر إلى الذهن هو التعبئة الفكرية الخاطئة، بجوانبها الدينية والسياسية والقبلية والسلالية والمذهبية والمناطقية، والتي أسهم ويساهم فيها الجميع. والأمر الثاني هو عدم حساسية مؤسسات النظام الحاكم بما يعتمل في ظاهر المجتمع وأعماقه، يقابله عدم قدرة المعارضة على تلافي ذلك القصور ومعالجته بالمزيد من الروية والصبر. وعلى سبيل المثال فإن موضوع الانتقال إلى النظام البرلماني كان جزءا من برنامج المعارضة لانتخابات الدورة البرلمانية الحالية، ولم يقبل بها الحزب الحاكم، كما لم يشر إليها في برنامجه الانتخابي. ولما قبل بها الحزب والنظام الحاكم ردت المعارضة بأنه قد فات أوان الموافقة على هذا القبول، وأن خيارها خيار الشارع؛ أي: إسقاط النظام. وقد طوره بعض الشباب الذين ظهروا على الفضائيات بالقول إنهم أمام خيارين هما: إسقاط النظام، أو الموت، مستلهمين شعار "الجمهورية أو الموت" الذي رفعته المقاومة الشعبية أثناء الهجمة الملكية على النظام الجمهوري بعد انسحاب القوات العربية عام 1967، وهو تقليد غير موفق. وإذا كان الهدف هو تغيير النظام القائم، بحيث يعود إلى ركائزه الجمهورية الأساسية، فإن الذي يرفع شعار الموت دون ذلك هو بالتأكيد خالي الذهن تماما عن الظروف والآليات التي تمت بها المواجهة في ملحمة فك الحصار عن العاصمة الجمهورية، ولم يقم أي اعتبار أو حساب لتوازن القوة في الداخل حينها ولا للمتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة. وإن إحالة قضية بهذا الحجم وهذه الأهمية إلى الشارع هو أمر على قدر هائل من المجازفة والخطورة. عن أي شارع نتحدث؟ فإذا كان الشباب المتعلم والمتمدن هو الذي قص شريط الدخول إلى الشارع، فإنه بلسان أبنائه وبناته يقر ويعترف بأنه لا يمتلك مشروعا بديلا في حال سقوط النظام. ويمكنني أن أستعير ما ذهبت إليه الآنسة نادية مرعي في برنامج جمعها مع أستاذ جامعي ومحام على قناة "العقيق". فحين سألها مدير البرنامج الأستاذ عارف الصرمي عن تصورها وزملائها وزميلاتها للبدائل، أجابت أنه ليست هناك بدائل جاهزة، ولكن الدولة المدنية ستتمخض بمرور الأيام عن الفوضى "المبدعة" القائمة. ولعلها استبدلت كلمة "الخلاقة" بكلمة "الإبداعية"، كونها شاعرة، وحتى لا يتطابق منطوقها مع منطوق سيئة الذكر كوندوليزا رايس. وبالقطع فإن كلام الآنسة لا يمكن أن يؤخذ على أنه يمثل الشارع. كما أن الشارع اليوم لم يعد هو شارع الأمس؛ فقد اختلط في شارع اليوم الحابل بالنابل: الأحزاب والقبائل والمناطق، والمدني والعسكري، وفقراء القوم خاصة، في سباق لشغل أوسع حيز فيه، بغض النظر عن علاقة رؤية كل منهم برؤية الآخر، وحتى تفاوت قدراتهم على التفكير الرصين! وأيضا يراهن الأستاذ علي سيف حسن الناشط السياسي المعروف على أن الدولة المدنية ستنبثق عن هذه الخلطة. وليس الأستاذ علي من معشر الشباب، فهو حزبي وسياسي قديم؛ لذلك فلا بد أنه يعرف حق المعرفة أن الحداثة عادة ما تصطدم بالبنى التقليدية فتجهض؛ لأنها لا تنتظر حتى تستكمل ملامحها وقواها. ومع الاعتراف بتفاوت قبول البيئات اليمنية المتنوعة للحداثة، فإن لكل بيئة منها بناها التقليدية الخاصة بها. وأذكر أنني حضرت احتفالا بقدوم ابن أخت سلطان لحج إلى عدن، بعد الانفتاح النسبي في ثمانينيات القرن الماضي، وأقيم بهذه المناسبة احتفال فني في عاصمة المحافظة (الحوطة) هب إليه أبناء لحج وبناتها عن بكرة أبيهم، فهمس الأستاذ عمر الجاوي في أذني: "هذا وهو ابن أخت سلطان لحج، فكيف إذا كان الإمام البدر؟". والشواهد حاضرة حتى اللحظة تؤكد ما ذكرت. وواهم هو من يتخيل عودة الجنوب إلى دولة يسمع فيها النظام بجيشه وأمنه وحزبه دبيب النملة ويضبط حركتها في ظل نظام ديمقراطي تعددي. وبعد، فإن قرون الفتنة قد ظهرت بعد صلاة الجمعة الماضية، وكانت أبشع من قرون الشيطان. والقائلين بأن الدم هو الثمن الطبيعي للثورة يسلكون مسلكا وعرا. فمن أين لهم معرفة أن ما يجري هو ثورة في الطريق إلى التحقق؟ وأن الروح والدم يهونان في سبيل ذلك. فعهد التاريخ البعيد والقريب بدمائنا أنها تهدر بلا ثمن، وعلينا أن نعتبر. وبعد كل الدماء اليمنية والعربية التي سالت منذ العام 1962 وحتى اليوم ما الذي بقي من الثورة اليمنية؟ إن وقفة حازمة وحاسمة من السلطات المختصة ضد ما جرى هي وحدها التي تضع حدا للمزيد من سفك الدماء. وأطرح في الختام سؤالا هاما وعاما هو: إذا كان أمامك أكثر من طريق للوصول إلى هدفك فأيها تختار: الأقل صعوبة أم الصعب أم الأصعب أم الأشد صعوبة؟! لا شك أن الاختيار الأصوب هو الأقل صعوبة؛ فذلك هو عين العقل وفيه تكمن مصلحة البلاد.