ما الذي سقط على وجه التحديد في 21 أيلول - سبتمبر الجاري : الدولة أم السلطة ؟! ثمة من يعتقد اليوم بأن الدولة هي من سقطت وعليه فإنه يسهب في كتابة مرثيات مترعة بنواحٍ و ولولة كفيلة باستمطار الدمع من عيون أصلب الرجال لكن من أولئك الذين ليس في رصيد خبرتهم قشة معرفة بواجهة و كواليس الواقع في اليمن .. وثمة من يعتقد بالمقابل أن السلطة هي من سقطت ويقع إثر سطوة هذا الاعتقاد فريسةً مِطواعةً لنوبة انتشاء و إحساس مسرف بالظفر والغلبة ... غير أن الحقيقة تكمن في (( منزلة بين المنزلتين )) فالذي سقط ، بتوصيف أدق ، هو (( دولة السلطة )) في حين أن (( سلطة الدولة )) كانت ولا تزال هدفاً منشوداً ، استدعى اندلاع سلسلة من الثورات في سبيل تحقيقه ، ولم يكن وجوداً قائماً قوَّضته انتفاضة أيلول 2014م بحيث يستدعي المراثي والنواح ، كما أنه من المبكر إطلاق صرخات الظفر بزعم أنه تحقق إثر اندلاع هذه الثورة ... لقد سقطت (( دولة السلطة )) بلا شك و تناثرت أحجارها من شاهق البذخ متدحرجةً تحت أقدام كائنات الحضيض ونزلاء الأرصفة الدائمين ؛ فيما (( سلطة الدولة )) لا تتحقق ولن تتحقق إلا ببناء (( دولة الشعب )) التي تغدو الثورات حين تخفق طلائعُها في بنائها مجرد تَعاقبِ نظراء وسطو قراصنة على قراصنة في سبيل وضع اليد على الدفَّة مع ثبات و رسوخ المسار و واحديته .. عقب انتفاضة 2011م على أهميتها لم نشهد نواحاً كاسراً لجدار الصوت ، كهذا الذي فجرَّته انتفاضة 2014م .. إن هذا النواح رد الفعل الطبيعي و المكافئ من حيث الكم و الكيف لحجم الضربة التي ألحقتها الثورة بمنظومة مراكز قوى السلطة كمّاً و كيفاً في صميم مصالح هذه المنظومة .. إنها تتوجع و تحتضر بوتيرة صاخبة و مدوية ، ما يعني أننا إزاء ثورة بحق ، على النقيض لرد فعلها المتدرج في 2011م ، بدءاً من نواح مكتوم ؛ مروراً باستعادة اتِّزانٍ؛ و انتهاءً بإعادة سيطرة و تَمَوْضُعٍ في موقع قرار الانتفاضة و من ثم تجيير الفعل الشعبي لصالح المزيد من رسوخ قاعدة مصالح السلطة و إطالة أمد استحواذها .. إن نواح القصور هو ترمومتر اختبار جديَّة الثورة في اقتلاع القلة المسيطرة من بحبوحة نعيمها المسروق ، فيما إعادة توزيع هذا النعيم على الغالبية المفقَّرة هو ترمومتر اختبار مصداقيتها الذي يستدعي بحق تهليل الأكواخ .. لقد اقتنعت (( النخبة المثقفة من أشباه الثوار أو المرتبطين بوشائج طبقية بمراكز قوى الإقطاع ، أو يسار الكارتون و حملة الإكسسوارات و الطواطم الثورية )) ، بأن تغييراً ما قد حدث في خارطة التوازنات التقليدية العتيقة للسلطة بفعل انتفاضة 2011م ، فانخرطوا يهللون لهذا (( التغيير المتوهم )) ، و يتزاحمون في مراكز اقتراع انتخابية (( بمرشح وحيد )) و يسوِّدون آلاف الصفحات في الإشادة ب"حكمة المبادرة الخليجية التي جنَّبت البلاد ويلات حرب أهلية مؤكدة " حد بهتانهم .. وطيلة ثلاثة أعوام ظلت الحالة المزرية أصلاً للشعب ، تتفاقم بوتيرة جنونية من سيئ إلى أسوأ ، بينما ظلت هذه النخبة الخليط من أدعياء الثورة ؛ تستميت في نصب المشاجب التي تعوزها السلطة لتعلق عليها غسيلها القذر ، كما تستميت في تزيين فساد الحكومة في عيون المسحوقين و تغدق على كائنات الصفيح حشيش الخدر و حبوب الهلوسة الإعلامية و الثقافية التي تسلخهم عن واقعهم و تعطل إحساسهم برداءته ليقفوا على الدوام بالضد لمصالحهم وفي صف (( سُّراقهم و قاهريهم )) .. طيلة الأعوام الثلاثة الفائتة كانت هذه النخبة الإسفنجية تقول للشعب : (( إن رفاه القلة المترفة هو قسمة إلهية لا اعتراض عليها ، و أن جوع الغالبية المفقرة قدرٌ لا مناص منه ، .. و أنه ليس بالإمكان على مصاف العدل أكثر مما كان )) ... من الطبيعي اليوم بل و ينبغي أن يُعْوِل هؤلاء السَّدَنةُ بأعلى ما في وسع حناجرهم ، إزاء هذا التداعي (( الدراماتيكي )) لمعبد الإقطاع و فرار (( كبار حاخاماته )) إلى شتات المنافي ، و بقائهم هم أي السدنة عالقين بلا أمل في مفترق عهدين و نظامين ، أحدهما انهار و الآخر يتخلق على نحو ما لا تهوى نفوسهم ... إن كون (( أنصار الله )) ثواراً قادمين من خارج حياض مشهد السلطة التقليدي بشقية (( المعارض و الحاكم )) ، هو أمر يثير ذعر أولئك الذين راكموا رساميل حضورهم بمسح أجواخ قوى النفوذ التي تتخذ من الأحزاب المعارضة و الحاكمة محضَ قفازات ناعمة لمواربة قبضة احتكارها البشعة و الأحادية المهيمنة على واجهة المشهد السياسي و كواليسه ، بتعدد المسميات .. وثمة فصيل آخر من المذعورين لهذه الحقيقة القاسية ، لا تربطه و شائج طبقية بالسلطة الساقطة ، لكنه دجَّن بصره على الاطمئنان فقط للمألوف و نبذ المغايرة ، وطوَّع أذنيه كوعاء للشائعات و الأراجيف ... إنه يؤمن بما يسمع فحسب أياً كان خرافياً ؛ و يكفر بما يرى و يحس و يلمس أياً كان مُطَمْئِناً وواقعياً ، وقد أبدى هذا الفصيل من (( أشباه الثوار )) قابليةً فذةً للانخداع بلعبة (( تدوير دولاب الوجوه التقليدية المألوفة )) في فبراير 2012م ، لانسجامها مع مألوفه البصري ، مكتفياً بوهم التغيير ، و ينتابه الذعر اليوم إزاء انتفاضة 2014م ومآلاتها ، لأنها ولادة ثورية عاصفة و مترعة بالحياة خارج (( أُلبوم الموتى التقليديين )) ، وهو يقاوم ذعره بفتح أذنيه لكل ما يجعل هذا الذعر مُبرَّراً ، و يتدفأ بالانضواء في زحمة قطيع المذعورين النظراء . لكن الخشية الحقيقية على (( الثورة و على حركتها الطليعية متمثلةً في أنصار الله )) ، لا تهب من تلقاء الأنماط المذعورة الآنفة .. بل من نمط آخر انتهازي كان بودِّه لو تَصدُقُ الشائعاتُ التي يطلقها خصوم (( أنصار الله )) على (( أنصار الله )) و تصدمه مجافاة هذه الشائعات و التهم الماضوية المهترئة لحقيقة الحركة و حقيقة تطلعاتها الفتية و الوطنية و رؤيتها الجذرية للصراع .. نمط انتهازي يرتدي (( بُرد محمد بن عبد الله )) و يوارب (( أطماع معاوية )) و (( خسة يزيد )) .. قلبه في خزانته المالية و سيفه في قبضة السلطان و المنتصر .. عيناه في (( قُمْ )) و يداه في (( نجد )) ... ويتوثب لينقض مستقبل (( أنصار الله )) الواعد ب(( ماضيه البائد )) ... إنه تماماً شبيه بسياق هذا السجع التوصيفي الذي أردت له أن يكون ايقاعاً بلا روح كحال الموصوف ... إنها محطةٌ مهمةٌ يتصالبُ عليها عودُ الحركة و أعتقد أن بوسعها أن تلفظَ كلَّ ما لا يتسق مع قيمها و لا يصب في الصالح العام للبلد....