احتفلت الجمهورية اليمنية بالعيد الوطني التاسع عشر لقيام الوحدة التي أعلنت صبيحة الثاني والعشرين من أيار (مايو) 1990. والتي طالما ظلت أمتنا العربية تتوق لمثل هذا الإنجاز التاريخي المجدد لمشروع الأمل العربي، خاصة أنَّ مضي تسعة عشر عاماً على قيام الوحدة قد عَّزز لدى المواطن العربي الثقة برسوخ هذه الدولة وديمومة بقائها، وذلك في قدرتها على تخطي ما يعترضها من العقبات، وتجاوز ما يحاوله أعداء الوحدة من إثارات متعددة كتمرد الحوثي في بعض مديريات محافظة صعدة، أو بتنفيذ عمليات إرهابية محدودة بين حينٍ وآخر، أو بتلك المحاولة الانفصالية في صيف 1994، والتي باءت بالخسران المبين، لتظهر في الآونة الأخيرة بعض التعبيرات الارتدادية لها في بعض المديريات التي أُطلق عليها تجنياً على الحقيقة مسمّى الحراك الجنوبي الذي لا صلة له بشمال وجنوب، سوى الإساءة إلى الوحدة الوطنية، والتعبئة الحاقدة المتكئة على ممارسات خاطئة من قبل البعض والتي تقع مسؤوليتها على مرتكبيها وليس على الوحدة التي أنقذت الوطن والمواطنين من أخطاء جسيمة، وخطايا لا تغتفر لحقت بالكثيرين في جنوب الوطن وشرقه إبان التشطير. وإن ذاكرة المواطنين الذين عانوا تلك المآسي كفيلة بتصديهم لتلك التعبيرات الارتدادية وتجاوزها، ناهيكم عن أنها دون مستوى خطورة المحاولة الانفصالية في حرب صيف 1994، والتي تابعها المواطن العربي، ويده على قلبه خوفا على الوحدة آنذاك، خاصة حين اقترن في ذهن الكثيرين أن ما مضى على قيامها هو نفس الفترة التي استغرقتها مدة بقاء الوحدة بين مصر وسورية التي انتهت بمؤامرة الانفصال .... وهذا قياس بعيد كل البعد عن أنْ يسري على الوحدة اليمنية، ولا وجه للمقارنة بينهما. فالوحدة اليمنية هي إعادة تحقيق وحدة بين أبناء قطر واحد هو اليمن، بينما كان قيام الجمهورية العربية المتحدة، وحدة بين قطرين عربيين يفصل بينهما بُعدٌ جغرافي يتوسطه دولة الكيان الصهيوني. فضلاً عن أنَّ الوحدة اليمنية لم تكن قرارا فوقيا، ولا كانت وليدة لحظتها، ولا مجرد استجابة لعاطفة جيَّاشة ضعف معها مراعاة الأخذ بأساسيات نظام الوحدة المتمثلة بضرورة المشاركة السياسية والحزبية والإعداد الشامل والمتكامل لتكوين مؤسسات الدولة المختلفة. والأهم من ذلك كله أنّ الوحدة اليمنية جاءت خلاصة نضال وطني مرير دام قرابة 130 سنةً ضد التشطير، وفي صور نضالية متعددة، شارك فيها الجميع دون استثناء وفي مختلف مراحل النضال، سواء بالنضال السياسي والمدني أو بالثورة الدستورية عام 1948 أو في ثورتي السادس والعشرين من ايلول (سبتمبر) 1962، والرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1963 وبإعلان الكفاح المسلح الذي دحر آخر جندي مستعمر في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 ثم بدخول النضال الوطني بعد ذلك مرحلته الإيجابية بين النظامين السياسيين الوطنيين في شطري الوطن، والقائم في أساسه على الحوار. والذي على الرغم مما ساده من إشكاليات في ظل القطبية الثنائية العالمية بإعاقة سير الحوار ووقوع العمل الوحدوي تحت الضغوط الخارجية، وحدوث خلافات وتوترات بل واحتراب بين الشطرين، لكنها جميعها لم تحل دون تصميم النظامين الوطنيين على استمرارية رفع شعار النّضال من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وأنَّ الوحدة اليمنية هي قدر ومصير الشعب اليمني الواحد ... واتجهت أدبيات ووثائق النظامين إلى تكريس هذا الشعار .. وكثيراً ما كان الحوار يعقب شدائد الاحتراب. مسيرة الوحدة إن واحدية النضال الوطني وواحدية الثورة اليمنية وواحدية الأهداف والشعارات لواحدية الشعب، وجماهيره الضاغطة في اتجاه التسريع بمسيرة العمل الوحدوي، كانت جميعها حاضرة لدى النظامين، ودافعة لحوار ديمقراطي سلمي كأسلوب أمثل لقيام دولة الوحدة ظل يُغلب منطق العقل والحكمة، وتجاوز أشكال الضغوط والمعوقات، وتجنب أسلوب العنف واستخدام القوة في فرض الوحدة. ولم يكن العمل من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بمنأى عن مشاركة أمتنا العربية التي ظلت بدولها، وجامعتها العربية وجماهيرها من المحيط إلى الخليج تؤدي دورا قوميا في رأب الصدع، ولمِّ الشمل، وخلق المناخات الملائمة لتقريب وجهات النظر في مسيرة العمل الوحدوي، والتي تمثلت في احتضان العواصم العربية لعقد القمم اليمنية في كل من الجزائروالقاهرةوطرابلسوالكويت، وبتأييد ومساندة من بقية العواصم العربية، وكان لتلك المشاركة العربية دور كبير في اهتداء النظامين في صنعاءوعدن إلى الاتفاق على آليات عمل شقَّا بها طريقا سالكا إلى الوحدة. فعلى هُدى اتفاقية القاهرة 1972 وبيان طرابلس 1972، وبيان الكويت 1979، قامت ونشطت لجان الوحدة وأنجزت أعمالها التي كانت تقدم أولاً بأول لقيادتي الشطرين، فضلاً عما شهدته الساحة اليمنية من لقاءات مكثفة وفي مختلف الظروف بين القيادتين في كل من صنعاءوعدن وتعز والحديدة وأبين ومكيراس، وكذا اجتماعات الحكومتين، وما ترتب على ذلك من قيام مشاريع اقتصادية مشتركة وتنسيق أمني سهل حركة المواطنين بين الشطرين بالبطاقة، حتى استكملت لجان الوحدة أعمالها بصورتها النهائية حين توصلت لجنة التنظيم السياسي إلى الاتفاق الذي أقرته القيادة السياسية للنظامين حول صيغة وشكل النظام السياسي لدولة الوحدة القائم على النهج الديمقراطي التعددي. ولم يبق أمام القيادتين سوى الاتفاق على تنظيم الفترة الانتقالية لدولة الوحدة وتحديد موعد ومكان إعلانها، وأن يسبق الإعلان قيام وفود مشتركة من الحكومتين إلى الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية لوضع الجميع في الصورة حول إعلان هذا الحدث التاريخي العظيم الذي لم يكن يعني اليمن فحسب، بل ويهمُّ الأمة العربية وأمنها القومي، ويسهم في تعزيز الأمن والسلام إقليميا ودوليا. وفي صبيحة الثاني والعشرين من أيار (مايو) 1990 وفي مدينة عدن الباسلة تم الإعلان عن ميلاد الجمهورية اليمنية في احتفال مهيب أضحى فيه الحلم حقيقة، والشعار واقعاً ودخل الشعب اليمني في ظل دولة الوحدة مرحلةً جديدة من تاريخه المعاصر، خاض فيها امتحانا صعبا لاجتياز الفترة الانتقالية والتخلص من ميراث التشطير، وإعادة ترتيب أوضاع البيت اليمني الواحد، والتمكن من دحر محاولة الانفصال في حرب صيف 1994، حيث استطاعت القيادة السياسية الوحدوية بزعامة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح إدارة المعركة بحزم واقتدار، وإصدار العفو العام من وسط المعركة وانصراف اهتمامات وجهود القيادة السياسية ومؤسسات الشرعية فور الانتهاء من هذه الحرب المحزنة إلى معالجة آثارها والمضي في تنفيذ برامج الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية. واجتازت دولة الوحدة ذلك الامتحان الصعب بانتصار إرادة الشعب والأمة ولتدخل اليمن مسيرة البناء والتنمية الشاملة وهي أصلب عودا وأكثر حصانة، وتمكنت من أن تحتل مكانتها اللائقة في المحيط العربي والإقليمي والدولي بانتهاجها سياسة خارجية تقوم على ثوابت تهدف إلى الحفاظ على المصالح الوطنية العليا والدفاع عن القضايا العربية المصيرية وتنمية العلاقات مع كل الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة، والتمسك بمبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وقد أدى ذلك إلى توثيق العلاقات بين الجمهورية اليمنية وكل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، وحل الإشكالات الحدودية التي كانت عالقة منذ زمن طويل. كما تم احتواء النزاع اليمني الأرتيري حول جزيرة حنيش الكبرى والأرخبيل التابع لها بالتحكيم الدولي الذي استعادت اليمن بقراراته سيادتها عليها، وقد قدمت اليمن بذلك أنموذجاً يحتذى به في حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وأضحت دولة الوحدة عنصرا مهما ورئيسا لدعم الأمن والاستقرار في المنطقة وعاملا أساسيا في تعزيز الأمن القومي العربي وعمقا استراتيجيا لدول الخليج العربية. وما فتئت تسهم في تفعيل العمل العربي المشترك وتقديم المبادرات لإصلاح ذات البين، وإصلاح جامعة الدول العربية وإعادة ترتيب البيت العربي وفق مشروع تقدمت به لقيام اتحاد الدول العربية، فضلاً عن دورها في المصالحة بين أطراف الصراع الصومالية وبناء السلام على صعيد القرن الأفريقي، والذي جسدته عمليا بقيام تجمع صنعاء للتعاون لدول جنوب البحر الأحمر، وقيام رابطة مجالس الشيوخ والشورى والمجالس المماثلة في أفريقيا والعالم العربي ... كما عززت اليمن من مكانتها الدولية لدى المنظمات الإقليمية والدولية، وطورت علاقاتها مع الكثير من دول العالم على أساس راسخ من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة منتهجة على الدوام مسلك الوسطية والاعتدال. ولقد جاء قيام دولة الوحدة متفقاً مع سمتي النظام الدولي الجديد المتمثلتين بالديمقراطية والتكتل الإقليمي الطوعي وهو ما وجد له سنداً ودعماً وتقبلاً من النظام الدولي الجديد ... هذا فضلاً عما تضطلع به دولة الوحدة من دور في الشراكة الدولية سواءٌ من خلال موقعها الاستراتيجي في أهم الممرات العالمية (خليج عدن ومضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر) أو من خلال الشراكة في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو من خلال تكريس الحوار على مختلف الصُعد الداخلية والعربية والإقليمية والدولية والتي انعقدت لها أكثر من ندوة، وأكثر من مؤتمر لحوار الثقافات وحوار الحضارات.
نضال شعب ومشروع أمة والأهم من ذلك كله أن قيام دولة الوحدة اليمنية بنهجها الديمقراطي وثوابتها الوطنية والقومية إنما يُُعبر عن نضال شعب ومشروع أمة، وقد قامت لتبقى، ولن يضيرها اصطناع الأزمات وحبك المؤامرات وتصُيد الأخطاء، فجوانب القصور والممارسات الخاطئة متداركة ولا يبرر حدوثها للنيل من جوهر الوحدة من قبل ذوي النزوات والمصالح الخاصة المتضررة من الوحدة، ولطالما اتخذت الحكومة الكثير من الإجراءات لمعالجة القضايا المُثارة، واستمرت القيادة السياسية في الدعوة إلى الحوار الذي يسد منافذ الادعاءات الزائفة لمن كشفوا أوراقهم من هذه العناصر المتربصة بالوحدة في التقائها مع عناصر القاعدة الإرهابية لتنسج أوهاماً هي أوهى من خيوط العنكبوت، فالشعب أقوى، والأمة أوعى والمنظومة العربية والدولية تسعى اليوم حثيثاً نحو الاستقرار وإحلال السلام، والاشتغال بما يقلق مستقبل العالم، والسير نحو المجهول جراء الأزمة المالية العالمية المتفاقمة. وزير الخارجية اليمني الأسبق، عضو مجلس الشورى حاليا