في ثاني إثبات على نبذ تعز لزمن صالح، باسندوة يأسر وجدان رجل الشارع في تعز؛ ربات البيوت المسنّات يُصدّقنه، والكثيرون من الناس يتداولون أقواله بتأثر وعاطفة, لكن الأكثر سحراً حكايات سبقته: كيف تصرّف مع فرق من المرافقين هرعوا إلى مطار صنعاء لركوب الطائرة، كيف أوقفهم وطلب من كل وزير معه أن يصعد بحقيبته فقط، وكيف جاء هو دون طاقم من الحرس والمرافقين. سألني صاحب محل خياطة في شارع التحرير إن كنت سأصلّي الجمعة في الساحة "ساحة الحرية" لم أتنبّه إلي سر تحفّزه النفسي وفرحه الظاهر بالذهاب للصلاة هناك، وجاء صوته: باسندوة سيصلّي في الساحة. لم أتحمس لزيارة الرجل إلى تعز, وقلت: ليس لديه لتعز غير الكلمات كما النظام السابق. - قال الخياط الذي كان يؤدّي عمله باستعجال متهيّئاً للذهاب إلى الساحة للصلاة مع باسندوة: «لا.. هذا شخص نزيه من زمان، لا مثيل له في اليمن، أتعرف أنه جاء دون حراسات، جاء فقط ومعه شخصان يرافقانه دون سلاح ظاهر». - إن شاء الله يطلع باسندوة كما تقول.. وسكتُّ. في المنزل قرب ساحة التغيير, سمعت صوت الرجل بعد خطبة الجمعة ثورياً كما يليق بروح تعز الثائرة، صوته وصل واضحاً إلى سمع كثير من البيوت المجاورة للساحة وحتى البعيدة نسبياً، لقد أدان بصوت عالٍ جريمة المحرقة التي تعرّضت لها ساحة الحرية في تعز، وصفها ب«الهولوكست» منهياً خطابه المؤثر بتأكيد عزمه على الكفاح من أجل اليمن: «حفظ الله اليمن». ولاحقاً خطر ببالي شكل من المقارنة بين خطابه في ساحة الحرية، وخطبة للنبي محمد في المدينةالمنورة بعد إحدى الغزوات حين تم توزيع غنائم الحرب كلها لأصحاب قريش أمام أنظار الأنصار الذين حُرموا من كل شيء، وترك المشهد في نفوسهم إحساساًً بالغُبن والأسى: كيف يوزّع النبي الغنائم على أصحابه من قريش وينسى أنصار المدينة من وقفوا إلى جانبه في أوقات الشدة, فاتحين بيوتهم وأموالهم أمامه وأمام المهاجرين من أصحابه مناصفة؟!. ثم يخبرنا التاريخ الهش الذي تعلمناه في الكتب الدراسية كيف جمعهم النبي وألقى فيهم خطبة مؤثرة لجبر الخواطر، تضمّنت عبارته الشهيرة: أترضون أن يذهب الناس بالعير والنفير وتعودون أنتم برسول الله؟!. في تعز قال باسندوة كلاماً بالغ الأثر لامس به وجدان التعزيين، تحدّث بإنصاف عن تعز القلب النابض للثورة واعتبر الثورة ثورة 11 فبراير، فجّرها شباب وشابات تعز، واندلعت في اليمن كله. وفي كلمته بمؤسسة السعيد الخميس الفائت قال الكثير مما يثير الإعجاب الشديد: هل يجب أن أحس بتأنيب الضمير لأنه مساء الخميس وجّهت نقداً لزيارته على صفحات "فيسبوك" جاءت تعليقاتي: باسندوة في تعز وليس لديه سوى الكلمات، فليعد أدراجه من حيث جاء، جاء للاستعراض السياسي كالنظام السابق، جاء يبحث في مشاريع ذات تمويل خارجي، هل يجب أن تعاني تعز وهي مدينة أكبر دافعي ضرائب الحرمان من حصة عادلة من مشاريع التنمية ذات التمويل المحلّي لستين سنة قادمة؟!. قلت: التعزي أكبر دافع ضرائب ولا يحصل على مياه المشروع سوى ل12 يوماً في السنة وفواتير شهرية، هل يعقل هذا؟!. كما انتقدته بشأن الحقوق السياسية لتعزوالحديدة وإب، ففي نظري لم يكن واضحاً كفاية كما عهدناه في تعامله مع القضية الجنوبية عندما أعلن تكراراً أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة بما في ذلك خيار الانفصال!!. أخشى أن يكون تعيين ابن تعز شوقي هائل مخدراً موضعياً لإبقاء تعز رهن استبداد المركز القبلي العسكري.. وذكرت أن الاتجاه نحو دولة اتحادية من إقليمين شمال وجنوب يتبعه استفتاء داخل الجنوب حول استمرار الفيدرالية أو فك الارتباط، انتهيت إلى أن "تعز، الحديدة وإب" يجب أن تُمنح الحقوق السياسية نفسها على أساس المعاملة بالمثل. في كلمته بمؤسسة السعيد تحدّث باسندوة عن الحوار الوطني، موجّهاً دعوته إلى الحراك الجنوبي والحوثيين وأطراف أخرى للمشاركة في الحوار. هذا ما آخذه على الرجل، واثقاً من نيّته الحسنة، لكن حسن النوايا لا يبرر نسيان أو تناسي كيان بحجم "تعز، الحديدة وإب" ففي ذلك غبن تاريخي مماثل للجناية التي ارتكبت بحق تعز بعد سبتمبر 62م، وهذه ملاحظة ذكية ومهمة أوردها في تعليقه على موضوعي صديقي على"الفيسبوك" صلاح سالم، يقول صديقي: «قد تكون محقّاً بشأن أن يكون تعيين شوقي هائل مخدراً موضعياً، ففي أعقاب ثورة سبتمبر حصل أمر مماثل، فقد تم تعيين المناضل الكبير ورجل الأعمال الذي أهدر ثروته في سبيل دعم الثورة الأستاذ عبدالغني مطهر محافظاً لتعز، لكنهم انقضّوا عليه بعد وقت وجيز، استبعدوه واستمرّوا في تعيين محافظين على لواء تعز من خارج تعز!!». إن أي حوار أو تفاوض وجُهته محددة سلفاً في دولة اتحادية من جمهوريتين فقط أو إقليمين جنوب وشمال، ليس سوى تلاعب بتعز ومثيلاتها, فيه تضييع لقضية عظيمة عادلة كقضية الجنوب، قضية يفضّل ساسة المركز تخطّيها والتعالي عن الاعتراف بها, قضية وجود ومصير "تعزوالحديدة وإب" خارج الاستبداد المركزي. ولمن يمعن النظر، سيرى شواهد عديدة على أن اليمن لن يعرف الاستقرار ما لم يخرج اليمنيون بمشروع عادل لمختلف أنحاء البلاد، مشروع الفيدرالية من أقاليم متعددة لا تقل عن أربعة أقاليم تتمتع بحكم ذاتي واستقلالية تامة قد يكون أحد الخيارات الأفضل. ملاحظتي, كيف تُذكر قضية صعدة في خطاب باسندوة وهي محافظة سُلّمت بصفقة سياسية لجماعة مسلحة بالكامل، فيما يستثنى إشعار "تعزوالحديدة وإب" بنوايا السلطة في رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء بشأن المستقبل ومكان "تعز، الحديدة وإب" في ترتيباته الجارية بشكل وبآخر. المعاملة بالمثل أقل ما يجب والقول الفصل هو أن باسندوة بلغ قلوب كثيرين من الناس في تعز، لقد أحبّوا نبرات الصدق في صوته وتعبيراته وملابسه العادية وتصرّفاته كواحد من الناس العاديين، لقد شدّتهم مدنيته.. وحققت زيارته نجاحاً باهراً، أكسبه شعبية يستطيع أن يفاخر بها عندما يعود إلى صنعاء، لقد نجح لأنه قدّم نفسه للناس بتلقائية ووضوح جيد ولأنه عبّر بصدق إلى أي حد يريد لتعز أن تنجح، وكذلك غدت تعز تريد لهذا الرجل أن ينجح، لقد حصل باسندوة على ثقة تعز الكبرى أكثر من أي وقت ومن أية مدينة أخرى، وعليه إدراك أن تعز تمنح ثقتها بسهولة للسياسيين الصادقين والطيبين؛ لكن تعز ستسحب ثقتها بسرعة إذا اتضح أن الأمر برمته لا يستحق. إن شخصاً مسؤولاً بمستوى باسندوة وصدقيته النسبية يستحق الثقة، وبعض النصائح من الناس الجيدين. كان الإثبات الأول على نبذ تعز لصالح, نهار 23 فبراير الماض.